على ضفاف الفرات والحرية
اجتمعن حول النهر وعشن النزاع


  • تصميم: نهلة محمد
  • قصة لـ: نور الاحمد
  • إخراج بصري و سوشيال ميديا: وفاء خيري
  • تصوير وتغطية ميدانية: أحمد الحمود، سولين محمد أمين.

تركتُ الفرات ورائي، وقررت أن أهاجر في رحلة جديدة، كما ملايين السوريين والسوريات المنتشرين في أنحاء الأرض، أشرب المياه الأوروبية وأحاول التقاط رائحة الزهور هنا، في النمسا، عبثاً.

أنا صحفية سورية مستقلة، قضيت سنوات شبابي في مواجهة حربٍ طاحنة، وأعرف تماماً ما تعيشه النساء على ضفاف نهر الفرات، شمال شرقي سوريا.

في هذه القصة، أسرد لكم قصة الفرات مع نساء سوريات عشن على ضفافه طوال سنوات مضت.

من خلال قراءة كلماتهنّ، الاستماع لأصواتهنّ، والتأمل في صورهنّ، سنخوض معاً تجربة كاملة، تسمح لكم.نّ بالاطلاع على علاقة الفرات بالنساء السوريات من مختلف المكونات والخلفيات الدينية والقومية.

تم تنفيذ هذا المشروع بالتعاون بين نساء ربحن الحرب ومنظمة العدالة من أجل الحياة و بموجب منحة صوت سوري للإنتاج المشترك


أم علي

مزارعة من ريف دير الزور، قضت حياتها على ضفة النهر، تزرع وتحصد وتراقب مجموعات مسلحة مختلفة تسيطر على قريتها طوال سنوات الحرب. في هذه القصة تحكي أم علي عن الجفاف، عن النزاع الدموي الطويل وأملها الشجاع في محصولٍ أخضر..

هاجر اسماعيل

قابلة وعاملة في المجال الطبي، شهدت أحداثاً دموية، وساهمت بإنقاذ المئات أثناء الحرب في سوريا، تحكي هاجر عن مجزرة شنكال، عن نفسها تهرع للمساعدة، وعن حياتها اليوم تساعد الأطفال والنساء وتحاول التقاط ما تبقى من حياتها..

ميس شويخ

صحفية من مدينة الرقة، عاشت تفاصيل الحرب في سوريا، ثم اللجوء في تركيا إلى البرازيل قبل أن تستقر في غويانا الفرنسية، وتستعدّ قريباً للانتقال إلى فرنسا. في هذه القصة، نعيش مع ميس حياتها في البلدان الأربعة، ورحلتها لتوثيق حياة نساءٍ سورياتٍ، عابرةً حدود العالم.


شمال شرق سوريا، تمتد أرضٌ مشبعةٌ بالحياة والتاريخ، يجري نهر الفرات الذي لطالما كان شاهداً على قصص شعوبٍ وأممٍ تعاقبت على ضفافه.

ينبع نهر الفرات من التقاء نهري كاراسو ومراد في المرتفعات الأرمنية في تركيا، ويتدفق جنوباً عبر سلاسل جبال طوروس إلى الأراضي السورية، أطول نهر في جنوب غرب آسيا ، يبلغ طوله 1740 ميلاً (2800 كم) حيث يبدأ رحلته عبر مدن تاريخية عريقة مثل جرابلس، والرقة، ودير الزور، والبوكمال. مع نهر دجلة، يحدد منطقة تُعرف تاريخيًا باسم بلاد ما بين النهرين، لطالما كان الفرات شريان الحياة للمنطقة، يغذي الزراعة ويروي الأراضي، ويجّسد الأمل في العيش والاستمرارية.

بحسب رصد أجرته مجلة المجلة، فإن مجموعة سكان منطقة الجزيرة السورية قبل عام 2011 كانت تُقدر بنحو 4 ملايين نسمة، وكان العرب يشكلون 60 في المئة منهم، والأكراد 30 في المئة، فيما كان الآشوريون/السريان يشكلون 5 في المئة، وباقي المكونات الدينية والقومية يشغلون نسبة الـ5 في المئة الباقية.

لطالما كانت النساء الريفيات قبل اندلاع الحرب في سورياالعمود الفقري الذي حافظ على استمرارية الحياة الزراعية والاجتماعية في المنطقة، وخاصة في ظل الظروف الصعبة الناجمة عن الحرب والجفاف.

العديد من النساء الريفيات، خصوصًا في الأسر التي تترأسها النساء، يعتمدن على الزراعة المنزلية لتلبية احتياجات أسرهن الغذائية وتصنيع بعض المنتجات الغذائية لبيعها وتوفير مصدر دخل، وغالباً ما يعملن دون أجر أو بتعويض بسيط، فرصهن في العمل المدفوع الأجر محدودة للغاية، وكانت أغلبهن تعملنّّ في مهن تقليدية تُعتبر ملائمة للنساء.
فيما يتولى الرجال عادة الأدوار المتعلقة بالزراعة الواسعة النطاق، مثل زراعة الحبوب ورعاية الماشية، ويُعتبرون المسؤولين الرئيسيين عن تأمين الموارد الاقتصادية للأسرة.

التقينا (أم علي) الفلاحة “الديرية”، كما تحب نساء منطقة الدير أن ينادين، ترتدي السيدة اللباس العربي التقليدي، تغطي رأسها بهبرية سوداء مرقطة بالأبيض والأحمر، وترتدي ثوباً ملوناً طويلاُ يغطي كامل جسدها وضعت فوقه “الزبون” وهو ثوب طويل مفتوح من الأمام، اصطحبتنا إلى بستانها الأخضر، وافترشت الأرض وبدأت بالكلام مباشرة!

في هذا الفيديو، تتحدث أم علي عن دور النساء في الزراعة وكيف يظهرن شجاعة وقوة تفوق الرجال في إدارة الحقول وتحمل أعباء العمل

أزمة الجفاف الشديدة التي ضربت منطقة الجزيرة السورية بين عامي 2006 و2010 كانت لها تأثيرات عميقة في هذه المنطقة. النساء مثل (أم علي)كنّ يلعبن دوراً حيوياً في الزراعة وتربية الماشية، لسوء الحظ، وجدْنّ أنفسهنّ أمام ضغوط هائلة للحفاظ على استقرار أسرهنّ في ظل تراجع إنتاج المحاصيل وارتفاع أسعار المواد الغذائية. هذا الوضع أدى إلى زيادة الأعباء على النساء اللواتي اضطررن إلى البحث عن وسائل بديلة لدعم أسرهنّ، بما في ذلك الأعمال المنزلية غير المدفوعة والعمل في مهن منخفضة الأجر خارج القطاع الزراعي، ومع تفاقم الجفاف، اضطرت العديد من الأسر إلى النزوح من الريف إلى المدن بحثًا عن فرص عمل، وهو ما أثر بشكل كبير على النساء. هذه الهجرة الداخلية أدت إلى تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي للنساء الريفيات، حيث واجهنّ تحديات كبيرة في التكيف مع الحياة الجديدة و فقدان الروابط الاجتماعية التي كانت تدعمهنّ في المناطق الريفية.

تتذكر أم علي تلك الأيام بمرارة: “كنا نعيش على هذه الأرض من زمان، الفرات كان مصدر الحياة لنا. بس من لما صار الجفاف، الأرض نشفت وما عدنا نقدر نزرع مثل قبل”. تفاقمت الأزمة الإنسانية، وعندما جاءت موجة الجفاف الشديدة، لم يكن بإمكان أم علي وعائلتها الاستمرار في زراعة الأرض كما اعتادوا، لكن العائلة آثرت البقاء في دير الزور حتى اندلاع فتيل المظاهرات في سوريا، مارس 2011.

تفاقمت معاناة أم علي مع اندلاع الحرب في سوريا بعد فترة الجفاف الشديد الذي ضرب البلاد بين عامي 2006 و2010. الجفاف أضر بالزراعة، مصدر رزقها الأساسي، وأدى إلى تدهور الأوضاع بشكل كبير. ومع بداية الحرب، لم يعد بإمكان أم علي وأسرها الاعتماد على الأرض بسبب الدمار والخوف. تقول: “الجفاف كان صعبًا، لكن الحرب دمرت كل شيء.” وجدت أم علي نفسها مجبرة على مواجهة تحديات يومية جديدة في ظل نقص الدعم والموارد، حيث زادت الحرب من معاناة أسر مثل أسرتها التي تعتمد على الزراعة في حياتها اليومية.

في هذا الفيديو ، تروي أم علي، المزارعة من دير الزور، تجربتها في مواجهة آثار الحرب التي قلبت حياتها رأساً على عقب. بكلمات صادقة، تصف كيف تحولت حياتها الآمنة إلى تحديات يومية وصراع من أجل البقاء.

أخبرتنا (أم علي) عن الصعوبات التي واجهتها بوصفها مزارعة، عن محاولاتها إعادة بناء حياتها مراراً خلال الحرب وبعدها. فقد كانت مدينة دير الزور وريفها ساحة لصراعات متعددة، ما أدى إلى تدمير واسع النطاق ونزوح جماعي للسكان. الأراضي التي كانت يومًا مصدرًا للرزق والعيش الكريم: “تحولت إلى مناطق مهجورة، مليئة بالأشجار المحروقة” كما تقول.

كما (أم علي) نزح عدد كبير من سكان دير الزور بسبب العمليات العسكرية، وخاصة خلال فترة سيطرة تنظيم “داعش”، نزحت أعداد كبيرة من السكان إلى مناطق أخرى داخل سوريا، وإلى الدول المجاورة. الضربات الجوية من قبل التحالف الدولي، زادت من موجات النزوح.

في المقابل، شهدت دير الزور أيضًا نزوحاً داخلياً إليها خلال الحرب، خاصة في المراحل اللاحقة عندما تمكن النظام السوري بدعم من روسيا السيطرة على أجزاء من المدينة. ولجأت العديد من الأسر النازحة من محافظات أخرى إلى دير الزور، مما زاد من تعقيد الوضع الإنساني فيها. وتقدر الأمم المتحدة أن محافظة دير الزور كان يسكنها حوالي 1.1 مليون شخص في عام 2022

في هذا الفيديو، تشارك أم علي قصتها عن النزوح القسري بسبب الحروب والخوف، وكيف عادت إلى أرضها لتجد كل شيء مدمراً. تروي بتفصيل مؤلم كيف قامت بإعادة بناء منازلها وزراعة أرضها من جديد رغم الصعوبات، وتحكي عن الجهد الكبير الذي بذلته لإعادة الحياة إلى أرضها المحروقة

هاجر وما بعد المجزرة..

هناك، في أقصى الشمال، تحكي لنا هاجر حكاية تعليمها: ” أنا من المالكية – ديرك، على أيامي، كان التعليم عيباً على البنات”.

(هاجر حسين)، تعمل قابلة وتعيش اليوم في الحسكة، نشأت في بيئة قروية بالقرب من (ديرك) المدينة ذات الغالبية الكردية، والمعروفة بتنوعها الثقافي وتاريخها الزراعي والتجاري.

لم يكن تعليم الفتيات مشجعاً عليه قبل الحرب في سوريا، التقاليد الثقافية في المناطق الريفية من الجزيرة السورية غالباً ما تفضل تعليم الذكور على الإناث. كانت العائلات الريفية تفضل أن تبقى الفتيات في المنزل للقيام بالأعمال المنزلية أو الزواج المبكر بدلاً من إكمال تعليمهنّ. وتفضل الاستثمار في تعليم الذكور على حساب الإناث. هذه التقاليد شكلت عقبة رئيسية أمام تعليم الفتيات ومنعتهنّ من مواصلة التعليم بعد المرحلة الابتدائية أو الإعدادية في كثير من الأحيان.

تقول هاجر إن والديها وخالها دعماها لإكمال الدراسة، لكن عدداً من أفراد العائلة كان معارضاً”ضربني عمي لمنعي من الدراسة، كان عليّ المشي كيلومترات للوصول إلى المدرسة، وكان ذلك غير مقبول اجتماعياً بالنسبة للفتيات.. لكنني تابعت”، تقول هاجر وتطرق بنظرها جانباً، لعّلها تذكرت ذلك اليوم. إهمال وتهميش المنطقة تعليمياً من قبل السلطات الحاكمة، دفعت ثمنه الفتيات بشكل أكبر من الشبان، فاجتماع قلّة المرافق التعليمية وبعدها عن أماكن سكن التلاميذ والطالبات، إضافة إلى العادات والتقاليد، جعل العائلات تحصل على سبب إضافي لمنع بناتها من الدراسة في مناطق بعيدة.

هاجر تتحدث عن محاولاتها الحثيثة إكمال تعليمها

نتيجة لسياسات التهميش، باتت المنطقة على صفيح ساخن لسنوات طويلة قبل اندلاع الحرب في سوريا، فرضت السلطات منذ الستينيات سياسات التعريب ومنعت التعلم باللغات المحلية، كان يفرض على الجميع تدريس المناهج بالعربية فقط.

كما صدر مرسوم أسفر عن تجريد نحو 120,000 كردي من الجنسية السورية بعد إحصاء سكاني جرى في محافظة الحسكة. تم تصنيف هؤلاء الكورد كـ”أجانب” أو “مكتومي القيد”، مما حرمهم من حق الحصول على الأوراق الثبوتية، النساء الكرديات كنّ الأكثر تضررًا من هذه السياسات التمييزية. فقد أدت القيود المفروضة على التعليم والعمل إلى حرمانهنّ من الفرص الاقتصادية والاجتماعية. كانت النساء أكثر عرضة للتمييز في الحصول على حقوقهن الأساسية، مثل الرعاية الصحية والتعليم، ولم يحصل هؤلاء على هويات سورية حتى بداية الثورة السورية.

مع تصاعد الصراع في سوريا، بدأت وحدات حماية الشعب (YPG)، وهي الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، في السيطرة على مناطق واسعة من الحسكة بعد انسحاب قوات النظام السوري منها. ثم تشكلت الإدارة الذاتية الديمقراطية في المناطق الكردية. وفي 2014، بدأ تنظيم داعش في التوسع والسيطرة على أجزاء من محافظة الحسكة. شهدت المحافظة معارك ضارية بين قوات داعش ووحدات حماية الشعب، وبدعم من التحالف الدولي، تمكنت وحدات حماية الشعب عام 2015 من استعادة السيطرة على المناطق التي استولى عليها التنظيم.

أغسطس 2014 كان فصلاً هاماً ومؤثراً في حياة (هاجر)، وكان أيضاً، أحد أكثر الفصول المأساوية في الحرب ضد تنظيم داعش. يومها شنّ التنظيم هجوماً استهدف اليزيديين، وهم أقلية دينية كردية عاشت لقرون في منطقة سنجار شمال العراق، بالقرب من الحسكة.
سيطر التنظيم بسرعة على المنطقة بعد انسحاب القوات الكردية (البيشمركة) وارتكب ارتكب مقاتلو داعش مجازر ضد المدنيين اليزيديين. حيث قُتل الآلاف من الرجال، واختُطفت آلاف النساء والفتيات اللواتي تعرضن للاستعباد الجنسي والبيع في أسواق النخاسة. تُقدّر التقارير أن نحو 5000 يزيدي قُتلوا خلال الهجوم، وتم اختطاف حول 7000 امرأة وطفل .أثار الهجوم غضبًا دوليًا واسعًا، وتم تصنيفه إبادة جماعية ضد الايزيديين من قبل الأمم المتحدة في وقت لاحق.

الكثير من العاملين والعاملات في المجال الطبي هرعوا قاطعين الحدود السورية إلى منطقة سنجار، قررت هاجر الانضمام لهم برفقة زميلتها ياسمين، لتتطوع و تساعد المنكوبين والجرحى وخاصة النساء في معقل المجزرة.

تقول هاجر: “كان المنظر مرعباً.. النساء الحوامل ولدن بسبب الرعب والخوف، كانت الصدمة كبيرة، كل النساء ولدن في ظروف قاسية وغير إنسانية، رأيت أطفالا حديثي الولادة ينامون في صناديق الخضار.. لم يكن هناك أسرة أو أية موارد للعناية بهم”.
تعتز هاجر بتجربتها في سنجار، و تتذكرها بطريقة إيجابية “تمكنت من تقديم المساعدة في تلك الظروف” تقول بفخر..

أدى الصراع إلى تدمير النظام الصحي السوري وتحديات تقديم خدمات الصحة الإنجابية ورعاية الأمهات والأطفال.

الهجمات على المرافق الصحية ونقص الكوادر المؤهلة بسبب الهجرة كانت من أكبر التحديات. لذلك ترى هاجر لدورها أهمية كبرى، في السنوات الخمس الأخيرة، كرست حياتها لدعم النازحات في المخيمات، حيث قدمت لهن الرعاية الصحية والإرشادات الضرورية، بدءًا من تنظيم الأسرة إلى رعاية الأم والطفل. عملت لساعات طويلة، متنقلة بين المخيمات في ظروف صعبة، لكنها وجدت في هذا العمل

كيف تعيش نساء الجزيرة التنوع والتلون؟

تلعب النساء في الجزيرة السورية دوراًَ محورياً في تعزيز مفهوم العيش المشترك، رغم التحديات الهائلة التي يواجهنها. خلال الحرب، تحمًلت النساء مثل أم علي وهاجر وغيرهما مسؤوليات كبيرة، حيث تولين أدواراً تقليدية غالب الأحيان، وغير تقليدية بحكم تأثير الحرب وتعويض غياب الرجال بسبب القتال والهجرة.

زاد ذلك من تضامنهنّ عبر مختلف الطوائف والأعراق. هذا التضامن يتجلى في التعاون المجتمعي بين الجيران والأقارب والأصدقاء في أماكن العمل، لكنه أيضاً تجلى عبر المبادرات والمنظمات النسوية الكثيرة التي تهدف إلى بناء السلام وتعزيز الحوار بين مختلف مكونات المجتمع، تطلقها نساءٌ من أجل النساء..

بالتعاون مع شريكنا المحلي العدالة من أجل الحياة، أجرينا استبياناً استهدف مائة سيدة من منطقة الجزيرة والفرات، من خلفيات دينية وقومية مختلفة ووجهنا لهنّ اسئلة مختلفة، تعكس إجاباتهنّ عليها آرائهنّ وتجاربهنّ في سياق العيش المشترك في المنطقة.

كشفت نتائج الاستبيان الذي أجريناه عن الروابط العميقة التي تشكلت بين النساء في شمال شرق سوريا، أظهرت النتائج أن معظم النساء، بغض النظر عن أعمارهنّ أو دياناتهنّ، لا يتقصدنّ وجود فروقات تمييزية كبيرة بينهنّ وبين جيرانهنّ أو أصدقائهنّ من خلفيات متنوعة. بل على العكس، أظهرت القصص التي روتها النساء كيف تجاوزت علاقاتهنّ العائلية والاجتماعية الاختلافات الثقافية والدينية.

جمعنا شهادات من النسوة المشاركات، كانت أغلبها تسرد قصصاً عن صديقات وجارات وزميلات من مختلف الطوائف، الاديان، والخلفيات القومية. الأمر الذي يعكس قدرة المدنيين ، المدنيات تحديداً على مقاومة الشروخ التي تحدثها الحروب والنزاعات السياسية، حتى عندما تكون قائمة على أسس طائفية او قومية.

من دائرة الجحيم إلى المنافي، إلى أعماق أمريكا اللاتينية…

في الرقة، المدينة التي يجمع سكانها على طابعها الريفي الوديع، نشأت ميس شويخ التي تطلق على نفسها ابنة الفرات، تعيش ميس اليوم في غويانا الفرنسية، في الجزء الآخر من العالم، بعيداً جداً عن الرقة، المدينة التي تحب.

نشأت الصحفية الشابة في المدينة، و درست الجامعة في مدينة حلب، شاركت بقوة في المظاهرات الطلابية ضد نظام الأسد، وطالبت بالحرية والكرامة مثلها مثل آلاف السوريين والسوريات.

مشاركة ميس في تلك المظاهرات لم تكن مجرد لحظة عابرة، بل كانت نقطة تحول رئيسية في حياتها، تقول ميس: “بعد فترة، اكتشفت أنني كنت على قائمة المفصولين من الجامعة وصرت مطلوبة للمخابرات”. هذا الحدث كان بداية لمواجهة أكبر، حيث اضطرت للعودة إلى الرقة في محاولة لمواصلة تعليمها، لكن الظروف لم تكن مواتية.

فيديو لمظاهرات جامعة حلب

اشتد خطر تنظيم داعش مع اشتداد شوكته، أثناء حملها في الشهر التاسع، تعرضت ميس لاعتداء عنيف من أحد عناصر التنظيم عندما رفعت النقاب للحظة لاستنشاق الهواء، ما أدى إلى ولادة مبكرة في ظروف قاسية. كانت ميس قد بدأت عملها في الصحافة وسط ظروف الحرب في سوريا، عرضت حياتها للخطر من أجل نقل الحقيقة. من خلال عملها مع مؤسسات مثل “سيدة سوريا” و”راديو الآن”. وركزت بشكل خاص على نقل قصص النساء ومعاناتهنّ تحت حكم داعش. كانت ميس تدرك تمامًا المخاطر التي تواجهها، فقد كانت مستهدفة من قبل التنظيم الذي كان يعتبر عملها تهديدًا مباشرًا لهم.

فيديو عن نساء الرقة تحت حكم داعش

تعرضت النساء لانتهاكات شتى من قبل مختلف الأطراف في الرقة، خاصة تنظيم “داعش”. استهدف التنظيم النساء بشكل خاص من خلال ترهيب النساء، وتخويفهنّ، وفرض الزواج القسري. تعرضت النساء للعنف الجسدي بسبب عدم التزامهن بارتداء النقاب أو الحجاب كما حصل مع ميس من ضرب على ساقيها، فيما تعرضت نساء أخريات للسحل والجلد في الأماكن العامة. كان الاعتداء على النساء وسيلة لترهيب السكان المحليين، وكان الرجال يخافون على زوجاتهنّ وقريباتهنّ من الخروج، الأمر الذي ضغط على النساء أكثر وحول حياتهن إلى كابوس مستمر تحت تهديد السلاح.

يقول تقرير دويتشه فيله “جسد المرأة غنيمة حرب” إن هذه الانتهاكات ليست مجرد أفعال فردية، بل جزء من استراتيجية أكبر تهدف إلى فرض سيطرة كاملة على المجتمعات المحلية من خلال استهداف النساء بشكل منهجي، مما يعكس مدى وحشية الحرب وأثرها العميق على النساء السوريات.

ميس وزوجها، وبسبب معتقداتهما العلمانية، وعملهما في قطاع الإعلام والمجتمع المدني، وجدا نفسيهما في خطر داهم، فالناشطون والناشطات و الصحفيون والصحفيات يُختطفون، ويقتلون في المدينة، وبات من الضروري أن يغادرا الرقة بحثاً عن الأمان.

قرر الزوجان الانتقال إلى تركيا، البلد المجاور الذي هرب إليه العديد من السوريين، لكن ميس وعائلتها واجهوا التمييز والعنصرية المتزايدة، أعداد اللاجئين الهائلة في تركيا، وسوء تنظيم التعامل مع ملف اللجوء السوري، واستعمال هذا الملف ورقة سياسية لتجاذبات اليمين واليسار في البلاد، جعل اللاجئين عرضة للتمييز أكثر وأكثر كل يوم.

اتخذت ميس قراراً جريئاً بمغادرة تركيا قبل أن تصل الأمور إلى حد لا يمكن تحمله. قررت الانتقال إلى أمريكا اللاتينية، تحديدًا إلى البرازيل، لم يكن ذلك خياراً بالطبع، إنما كان البلد الذي بإمكان ميس الحصول على تأشيرة لدخوله بطريقة سهلة.

انتقلت ميس مرة أخرى إلى غويانا الفرنسية. هناك، تأمل العائلة الصغيرة أن تجد طريقاً إلى فرنسا، علها تكون المحطة الأخيرة لتحقيق حلمها بالأمان والاستقرار، بعيدًا عن كل القيود التي واجهتها كامرأة تسعى للحرية والاستقلال، متطلعة إلى حياة جديدة و مليئة بالحرية، تمامًا كما كانت تطمح وهي على ضفاف الفرات.

إن قصص النساء التي أرويها هنا، من ضفاف الفرات أو كما أحب تسميتها “الجزيرة السورية”، لا تمثل سوى جزء بسيط من آلاف الحكايات التي لم تُروَ بعد. و بينما تركزت رحلتي على ميس في منفاها، وهاجر ورغبتها في الاستمرار رغم تعبها، وأم علي العاشقة لأرضها، أعي تمامًا أن كل امرأة في هذه المنطقة تحمل قصة فريدة عن الحرية التي اختارتها، بدءًا من قرارها في اختيار مسار حياتها وصولًا إلى الحرية في وطنها.

لم يكن النهر العظيم وحده شاهدًا على آلامهنّ وأحلامهنّ؛ بل كل شجرة، كل حقل، وكل منزل مدمر كان يشهد على قوة النساء في مواجهة أهوال الحرب والجفاف والنزوح.