تحقيق: إيمان عبد الرحمن
تصميم: محمد الحاج أحمد
في قلب قرية هادئة بمحافظة سوهاج المصرية، نوفمبر 2023، شهدت قرية الاخيضر بمركز المراغة، بنفس المحافظة، حادثة مروعة، كان بطلها الطفل عبد المعز 10 سنوات، الذي كان يعيش مع والدته هو وأخيه بعد الانفصال عن الأب، بعد حكم قضائي بضم الأطفال إلي حضانتها، ذهب عبد المعز إلي والده في أحد الأيام ولكنه لم يعد، بحثت الأم عليه كثيرًا دون جدوى، ظلت تبحث عنه وتفاجئت بالأب يذهب لتعنيفها على إهمالها وضياع الابن.
إلى هنا قصة قد تتكرر في أماكن كثيرة، وتحكي الأم لنساء ربحن الحرب أن اكتشاف أن الطفل البرئ كان ضحية والده الذي انهال عليه ضربًا حتى مات، لأنه رفض العيش معه، فقرر الانتقام من فلذة كبده بلا أي شفقة “شككت في أول الأمر أن له يد في اختفاء عبد المعز، ولكن لم يكن لدي دليل، الطفل ذهب له ولم يرجع ولكنني لم أتخيل أن ابني مدفون تحت طبقة اسمنتية في المنزل الذي بحثنا فيه مرارًا”.
وأضافت وهي تبكي: “أخبرت المباحث بشكوكي ومع التحقيق معه انهار واعترف، بقتله ابنه، حتي الآن لا استوعب كيف هان عليه ابنه، قطعة منه، أن يضربه ويخنقه ثم يحفر حفرة ويهيل عليه التراب ثم طبقة سميكة من الأسمنت حتى لا يكتشف أحد الأمر”.
“ابني في الجنة والقضاء العادل أخذ لي حق ابني، وحق براءته بإحالته إلى فضيلة المفتي ليتلقي العقاب الذي يستحقه، الحمد لله يا رب أنك حق، ويا عبد المعز نلتقي في الجنة ان شاء الله”
عبد المعز ليس الحالة الوحيدة التي تم فيها قتل الأبناء، بل توجد حالات عديدة، ويحكم على المتسبب في ذلك بأقصى عقوبة تحت تهمة “ضرب أفضي إلي الموت أو قتل غير عمد، في قضايا متكررة يتستر فيها الجاني تحت ستار التهذيب والتأديب، وهو فيه حد يقتل ضناه عن قصد؟” لتكون المحصلة أطفال يُقتلون علي أيدي ذويهم أو من يقومون علي رعايتهم، فتتركنا هذه الأمثلة متسائلين، كيف يمكن لعلاقة فطرة وحب فطرنا عليها كآباء وأمهات أن تتحول لقتل وتعذيب؟ وكيف نضع حد لمثل هذه الممارسات لحماية الأطفال، ونبحث عن الأسباب بطريقة معمقة أكثر، هل هي أسباب خارجة عن الإرادة مثل مرض نفسي أو تعاطي المخدرات؟ أم أننا نعيش وسط وحوش يتخذون من العنف وسيلة ارتضوها لفلذات أكبادهم؟
في التحقيق التالي المدفوع بالبيانات ضمن منحة مؤسسة محمد حسنين هيكل لصحافة البيانات بالتعاون مع نقابة الصحفيين المصرية، فتحنا ملفات تعذيب وقتل الأبناء الذي يؤدي، في أحيان كثيرة إلى القتل غير العمد، لرصد أهم الأسباب والمؤشرات، بالاعتماد على قاعدة بيانات مكونة من 1500 قضية “قتل أو تعذيب أحد الأبناء” نظرت أمام المحاكم المصرية، تم تجريفها من أرشيف القضايا التي نشرت على موقع اليوم السابع خلال الفترة من 2017 وحتى 2024، للوقوف على أهم الأسباب ومعرفة تفاصيل أكثر، في محاولة لتفسير وتقديم حلول لهذه الوقائع.
حصاد الأرواح
جمعت 1500 قضية كان نتاجها وفاة واحد من الأبناء أو أكثر بنسبة 87% وتمثلت النسبة المتبقية في بلاغات ضد الأب أو الأم بضرب وتعذيب الأبناء الذي قد يصل لحد الكي بالنار والصعق بالكهرباء.
وكان السؤال الهام الذي حاولت الإجابة عليه، من المتسبب الأول لحالات قتل الأبناء؟ الأب أم الأم؟
الأب المتهم الرئيسي في حالات العنف ضد الأبناء
من خلال تحليل القضايا المتضمنة في قاعدة البيانات المجرفة، وجدنا أن الأب هو المتهم الأكبر في قضايا التعذيب التي أدت إلي موت الابن أو الابنة بنسبة 54% وجاءت الأم في المرتبة الثانية بنسبة 25% ثم زوج الأم بنسبة 7% ، أما في بعض الحالات كان الطفل في رعاية ذويهم في حالة موت أحد الوالدين وزواج الآخر، و تعرض الطفل للتعذيب والتعنيف.

أشكال العنف
كل هذه الخسائر البشرية والنفسية نتيجة لأشكال متعددة من العنف، فوفقًا للمسح الأسري الأخير المنشور على موقع الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، تنوع أشكال العنف تجاه الأبناء لضبط السلوك، حيث جاء أعلي شكل وهو استخدام أي وسيلة عنيفة لضبط السلوك، تليها العقاب الجسدي الشديد ثم ضرب أو صفع الطفل علي الوجه أو الضرب على الرأس أو الإثنين معًا.

العنف مرفوض
من واقع سجلات القضايا أذكر طفلة قتلت على يد أبيها الذي ضربها حتى الموت لأنها كانت تلعب وتقاعست عن الأعمال المنزلية، وأخري رفضت أن تناول أبيها كوب من الماء، وأب آخر قتل طفلته ضربًا ومنعًا من الطعام لأنها رفضت أن تغسل له “الجورب”، وغيره عذب ابنه وكواه بالنار لأنه كان يتبول لا إراديًا!
أطفال في سن الزهور، عانوا من الألم الجسدي حتي الموت والسبب كان “التأديب والتهذيب” ، من تحليل قاعدة البيانات لتبين الدوافع التي دفعت الآباء لضرب الأبناء جاء سوء السلوك في المرتبة الأولى، يليها الرغبة في التأديب، ثم التبول اللاإرادي، والسبب الأخير تأذي الأطفال الضحايا بداية من الحرق في الأماكن التناسلية وبعض الحالات تمت الوفاة نتيجة التعذيب.
يقول الدكتور وليد رشاد أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الإجتماعية والجنائية لنساء ربحن الحرب أنه لا يوجد أب أو أم يتعمد قتل طفله، كما أن العنف أسلوب خاطئ، ومرفوض لأنه يولد إيذاء نفسي للطفل أكثر من البدني، وله آثار سلبية تؤدي إلي العزلة أو العدوان المفرط ويمارس العنف على من أصغر وأضعف منه، لذلك يجب أن نشدد العقوبة ونوقف سلسلة العنف التي لا تنتهي حتى لو بدون قصد أو بحجة التأديب والتربية.

مجتمع الضحايا
ويشير دكتور وليد إلي مجتمع الضحايا وهو يقصد به كل ما يحيط بالجريمة من مكان وبيئة وأشخاص، وليس فقط فعل الضرب أو التعذيب علي الضحية وخدها، ففي بعض الحالات يوصم المجتمع المحيط بالضحية كله، من أسرة وأفراد وحتى المنطقة السكنية التي حدثت بها واقعة القتل خاصة، وفي هذه الحالة نحن نتحدث عن أطفال رأوا أو عايشوا حالات ضُرب فيها الأخ أو الأخت حتي الموت، وهذا المجتمع لابد النظر له بعين الرعاية وخاصة الأطفال الذين وقع عليهم أذي نفسي وليس فقط معنوي، وهو ما يتوجب متابعة نفسية وتعامل خاص مع هؤلاء الأطفال، ولكن هل هذا يحدث في الواقع؟
الأنثى ضحية دائمًا
كان من الملاحظ الفرق الكبير بين نسبة الضحايا من الأبناء الذكور والبنات، فكانت الإناث الأكثر عرضة للتعذيب والضرب والقتل في بعض الحالات.
وتؤكد الدكتورة هالة منصور أستاذ علم الإجتماع بجامعة بنها، أن بعض الأسر تتعامل بالفعل بعنف أكبر مع الابنة على عكس التعامل مع الابن الذكر، ويوجد تمييز في المعاملة والتربية تكون واضحة أكثر في المجتمعات الريفية والفئات الأقل تعليمًا وكذلك بعض المناطق الشعبية، ويأتي ذلك انطلاقًا من فكرة الخوف من أن تجلب الابنة لهم الفضيحة عندما تكبر”
لذلك يكونوا أكثر عنفًا ظنًا منهم أن هذا يضبط السلوك، ولكن في حقيقة الأمر هو تعامل فج وتمييز واضح ضد الأبناء، وخاصة في بعض الحالات يكون التعامل منبثق من ثقافة ذكورية تعطي الابن الحق في الاعتراض أو التمرد وقبول بعض التصرفات ورفضها من الابنة البنت، مما يخلق الكثير من المشكلات الاجتماعية والنفسية لدى الأبناء ويشعر البنات بالظلم والتمييز، فضلاً عن الضرر والأذى الجسدي الذي قد يصل في كثير من الأحيان إلى موت الابنة نتيجة الضرب والتعذيب.
وتضيف إذا استثنينا الحالات التي يكون فيها الآباء مرضي نفسيين، والذين يتلذذوا بتعذيب أطفالهم ويعتبرونهم ملكية خاصة، سواء كانوا ذكورًا وإناثًا، وفي هذه الحالة يتم التعامل على أنهم مرضى نفسيين وليس قصدهم التربية.

أهم الأسباب النفسية لتعنيف الأبناء
وعن الأسباب النفسية التي قد تدفع الأب أو الأم لتعنيف أبنائهم يقول دكتور جمال فرويز أستاذ الطب النفسي وعلاج الإدمان في تصريح خاص لنساء ربحن الحرب أنه يوجد أكثر من سبب تدفع الآباء والأبناء للعنف غير المبرر مع أبنائهم، والتعامل بقسوة شديدة قد تصل إلي حد الإيذاء أو القتل، أولًا الأب الذي يتعاطى المخدرات، ولا يكون واع لما يفعله فقد يصل إلي حد القتل لأسباب واهية، ويوجد الشخص “الانفجاري”، وهم من يضرب ثم يعتذر، وهذا الشخص لا يضرب أو يعنف إلا الأشخاص الأضعف منه مثل زوجته، أو ابنته أو أحد العاملين لديه، أو أي ضحايا يكون متأكد من أنهم لا يستطيعون رد الأذى ، فيضرب ويهدد ويهين ثم يراضي هذا الشخص فيما بعد.
وقد يوجد الشخص المكتئب الذي يضرب كرد فعل انفعالي، نتيجة إصابته بالاكتئاب وهو غير واع لمشكلته النفسية، وفي هذه الحالة نكون ردود الأفعال غير مساوية للفعل، فقد يكون فعل الابن بسيط ويكون الرد من الأب والأم عنيف جدًا وغير مواز للفعل، وقد يتأذى الطفل بطريق الخطأ، نتيجة الضرب أو السقوط، قد تصل للوفاة كما نتابع في بعض القضايا والحوداث.
من أمن العقاب
وعن حلول لمثل هذه النماذج ، يضيف فرويز “من أمن العقاب، أساء الأدب” فلابد من الحساب قولًا واحدًا، ومعالجة الأسباب من جذورها، فالزوج الذي يضرب الزوجة بطريقة متكررة ويعتذر فتسامحه، سيستمر في هذه الأفعال، ونفس الأمر بالنسبة للأبناء، فيوجد خط لنجدة الطفل وهو “16000”، إن تم الإبلاغ عن هذه الوقائع ضد الأبناء، فسيفكر الجاني كثيرًا قبل الإيذاء، أما بالنسبة لمرضى الاكتئاب لابد من العلاج حتى لا يؤذي الشخص نفسه أو الآخرين، وكذلك نفس الأمر بالنسبة لمتعاطي المخدرات، العلاج والعقاب هما الحل.
إيمان عبد الرحمن
صحفية بيانات، ونائبة مدير تحرير بوابة دارالهلال المصرية، حاصلة علي العديد من المنح من جامعة ميشجان وإلينوي في الصحافة وكتابة المحتوي، مؤخرًا حصلت علي دبلومة الإعلام الرقمي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وتدرس حاليًا علوم البيانات بجامعة القاهرة”.
