مع الانكشاف التدريجى لآلاف القصص المغيّبة بفعل الحرب والاعتقال والانتهاكات فى سوريا، تبرز الحاجة إلى أدوات صحفية حساسة توثق تجارب الناجين والناجيات بطريقة إنسانية ومسؤولة. وفى هذا السياق، شكّل البودكاست أداة فعّالة لسرد هذا النوع من القصص، خاصة فى سياقات ما بعد النزاع.
استجابة لهذه الحاجة، نظّمت منصة “نساء ربحن الحرب” سلسلة تدريبية تفاعلية لتغطية قضايا الناجين والناجيات، وفي هذا المقال نتحدث عن هذه الجلسة بعنوان “توثيق قصص النساء عبر البودكاست”، قدّمتها الصحفية رشا الديب، المتخصصة فى إنتاج البودكاست، وصاحبة خبرة مهنية تتجاوز عشر سنوات
لماذا البودكاست للقصص الصعبة؟
أشارت الديب من خلال الويبنار إلى أن البودكاست يتيح مساحة آمنة لسرد القصص الشخصية، حيث يوفر فرصة للناجين\ات للتعبير عن تجاربهم بحرية وبطريقة تقلل من الشعور بالضغوط، كما يسمح هذا الشكل السردي بنقل التفاصيل الدقيقة التي قد لا تظهر في الأشكال الأخرى من السرد الصحفي.
استعرضت الجلسة خطوات عملية ونصائح حول التعامل مع القصص الصعبة بأسلوب مبتكر وإنساني، وأكدت الديب على عدم وجود دليل او قواعد أساسية لكيفية التعامل مع الأشخاص الناجين\ات، وإنما يتطلب الأمر حساسية مهنية عالية ومرونة في التعامل مع كل قصة بناء على طبيعتها. الصحفي الناجح، بحسب ديب، هو من يستطيع أن يخلق بيئة مريحة وآمنة للضيف، مما يعزز الثقة ويدعم عملية السرد.
وتناولت المدربة مصطلح “القصص المتطرفة”، مشيرة إلى ضرورة إعداد الصحفيين بشكل خاص للتعامل مع الشهادات الصادمة، وضمان عدم التأثير على الشهود أو مقاطعتهم. كما عرضت تقنيات تنظيمية تجعل هذه الشهادات قابلة للسرد والاستماع.
ومن بين أبرز الأدوات التي تحدثت عنها الديب هي الاستماع النشط، كأداة لفهم قصص الناجين\ات من الصدمات، والاستماع ليس مجرد متابعة كلمات الضيف، هذا النوع من الاستماع يعكس وعي الصحفي بأن التجارب التي يرويها الضيف هي ملكه وحده، وأن دوره يقتصر على استيعاب القصة، كما يجب أن يكون الصحفي حاضراً تماماً في اللحظة، مركزاً على كلمات الضيف، ونبرة صوته، وحتى صمته. هذا ليس فقط لإظهار الاحترام، ولكن أيضاً لفهم عمق القصة وسياقها.
إضافة إلى ذلك، شددت الديب على ضرورة الإعداد المسبق للمقابلة، ويشمل ذلك إطلاع الضيف على طريقة سير الحوار، ونوع الأسئلة التي يمكن طرحها، مما يخلق شعوراً بالأمان ويزيل التوتر، كما أكدت على أهمية أن يكون للضيف الحرية الكاملة في تحديد ما يود مشاركته ولا يجب أن يشعر بأنه مضطر للإجابة على كل سؤال، إتاحة المجال له لاختيار ما يشاركه وما يحتفظ به لنفسه يعزز الثقة ويُظهر احترامك لخصوصيته.
الأسئلة المجازية في القصص المؤلمة
وقد تناولت المدربة أهمية استخدام الأسئلة المجازية بدلاً من الأسئلة المباشرة التي قد تكون مزعجة وذلك لتسهيل مشاركة الناجين\ات لتجاربهم المؤلمة، كأداة فعالة لتجاوز الحواجز النفسية التي قد تواجه الناجين\ات، حيث يمكن استخدام استعارات وصور رمزية تسهّل التعبير مع مراعاة السياقات الثقافية والتفاصيل الفردية. شددت على أن الهدف ليس فرض تسلسل منطقي على الرواية، بل السماح للشهود بالتعبير بحرية حتى وإن كانت شهاداتهم متفرقة أو متناقضة. على سبيل المثال، يمكن سؤال الناجين\ات عن أصوات أو صور تحمل معاني خاصة لهم وأن نطلب منهم وصف شعورهم بدلاً من الاستفسار المباشر عن التفاصيل المؤلمة كأن نقول (لو حابة تقوليلنا شي وتنسيه للأبد)، هذا الأسلوب يساعدنا في الوصول لطبقات أعمق في القصة.
كما يجب علينا أن نحضّر الأسئلة وان تكون تبادلية وننتقل بمرونة بين الأسئلة وان نمنح فترات تنفس وراحة بين الأسئلة حتى لا نفقد الضيف بالإضافة لاستخدام الطبقات الزمنية داخل القصة ويفضل أن نبدأ الحديث عن أنفسنا.
استخدام الذاكرة في إنتاج البودكاست
أوضحت الديب أن التذكر ليس عملية محايدة، بل هي عملية ذاتية لإعادة بناء التجارب وخلق معناها وتطرقت إلى أربعة أنواع من الذاكرة وهي:
الفردية: ما عاشه الشخص بنفسه ويستطيع الحديث عنها أي حدث من وجهة نظر فردية
الجمعية\العامة: مجموع الشهادات الفردية عن حدث معين.
الشائعة \الذائعة: القصص الأكثر تردداً بدون تقصي الذاكرة الفردية والعامة.
الرسمية\الحكومية: السرد المسجل أو المكتوب من قبل جهات رسمية.
احترام تعقيد الذاكرة من النقاط التي أكدت عليها الديب، فقد تكون الشهادات متناقضة أو غير مكتملة، لكن دور الصحفي ليس إثبات صحتها، بل تقديم مساحة آمنة للتعبير.
خطوات عملية لبناء قصص البودكاست التفاعلية
1.تحديد الصراع والشخصيات: تبدأ القصة بمشكلة محورية تُبرز المشكلة و الشخصيات وأدوارها.
2. تصعيد الأحداث: العقبات التي تواجه الشخصيات بطريقة تصاعدية تزيد من التشويق والاهتمام.
3. إضافة العناصر الصوتية: استخدام الموسيقى يخلق تجربة سمعية غنية تعزز من فهم الجمهور للسياق
4. ذروة القصة: تقديم لحظة الحسم أو الحل.
5. النهاية المتماسكة: اختتام السرد بإجابة على سؤال محوري يتناسب مع السياق.
الحس الأخلاقي في توثيق القصص
أحد المحاور المهمة التي ركزت عليها ديب كان الجانب الأخلاقي، وأن يكون حماية هوية الضيوف والحفاظ على سلامتهم النفسية أولوية. وقالت: “نحن كمنتجي قصص مسؤولون عن أمان الضيوف. لا يجب أن تظهر أي تفاصيل تكشف عنهم إذا لم يرغبوا بذلك.”
كما أشارت إلى أهمية تصوير الضيوف كأبطال، بدلاً من التركيز على الجانب المأساوي فقط. الهدف ليس تضخيم المعاناة، بل تقديم القصة بطريقة تعكس قوتهم الإنسانية.
وشددت على ضرورة منح الشهود حرية اختيار نقطة البداية في السرد وحقهم في التراجع عن أقوالهم في أي وقت، حتى بعد انتهاء التسجيل، لا بد من منح الشهود حرية اختيار نقطة البداية في السرد وحقهم في التراجع عن سرد قصصهم، هذا النهج يتيح للضيف مساحة آمنة للتعبير، ويؤكد احترام الصحفي للحدود التي يضعها الضيف، حتى بعد انتهاء التسجيل.
وقالت “نحن مسؤولين عن أمان أصحاب القصص لا يجب ان يدل شيء عنهم عندما لا يرغبون مثلا الصوت او أي شيء يدل على الهوية، يجب أن نسمع بوعي حتى نكون قادرين على السرد دون إلحاق الضرر بأصحاب القصص، يجب أن ننتبه كيف يجب ان يظهر أبطال قصصنا وأن نحاول تحفيز الناس وهي تتحدث حتى لا تكون القصص مكسورة بشكل مرعب.
أمثلة ملهمة من البودكاست التي استعرضتها المدربة خلال الجلسة
استعرضت ديب خلال الجلسة أمثلة ملهمة مثل سلسلة “صوت الحرب، مذكرات صوتية” و “أصوات من غزة” و”قصصنا“، التي اعتمدت على التاريخ الشفوي وأساليب مبتكرة في تقديم القصص، مما يبرز كيف يمكن للبودكاست أن يكون وسيلة قوية لسرد القصص المعقدة بطرق تفاعلية وإنسانية.
اختتمت الديب الجلسة بالقول إن البودكاست ليس مجرد وسيلة إعلامية، بل منصة تعزز التفاعل الإنساني وتبرز الأبعاد الشخصية للتجارب، ويمكن للصحفيين تقديم محتوى مؤثر يلبي احتياجات الجمهور الرقمي، ويحترم حساسية الموضوعات الصعبة.
لمشاهدة الجلسة كاملة على يوتيوب يمكنك زيارة الرابط التالي:
اقرأ أيضاً:
التحقيق في العمالة: “أمازون” دفعت تعويضات بالملايين بسبب تحقيق استقصائي
رشا الديب
رشا الديب منتجة بودكاست أنتجت 11 بودكاست وتقوم بتدريب البودكاست منذ عام 2018، كذلك هي المديرة الإقليمية لبرنامج أصواتنا ومؤسسة مدرسة البودكاست ومختبر البودكاست.
