إدلب: متطوعة تعلم الأطفال مخاطر الألغام غير المنفجرة

سوريات ينزعن الألغام من حقول الموت

أميمة محمد – سوريا

في سكون مقبرة صغيرة في بلدة تلمنس بريف معرة النعمان في محافظة إدلب، تجثو عائشة بثوبها الأسود، تقلب بيديها حبات التراب على قبرٍ صغير زرعته بالورود. هنا ترقد شام، طفلتها ذات الستة أعوام، التي أنهى حياتها لغم على هيئة كرة وهي تلعب فوق ركام منزلهم المدمر، بعد عودتهم من رحلة نزوح امتدت لأكثر من خمس سنوات.

“انفجر اللغم بين يديها، وهي تلعب مع أخيها. حاولنا إسعافها لكن الأطباء فشلوا في إنقاذها بعد أسبوع كامل من المحاولات”، تروي عائشة، ودموعها تنطق بما تعجز الكلمات عن قوله.
قصة شام ليست استثناءً، بل واحدة من آلاف المآسي التي حوّلت الذخائر غير المنفجرة إلى شبح يطارد السوريين في كل عودة إلى منازلهم وقراهم. فخلال أكثر من أربعة عشر عامًا من الحرب، خلّف القصف والغارات والألغام أرضاً موبوءة بالموت المؤجل.

ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل ما لا يقل عن 3500 مدني في سوريا نتيجة انفجار ألغام أرضية منذ آذار (مارس) 2011 وحتى نهاية العام الفائت، من بينهم نحو 930 طفلاً و360 سيدة، ما يجعل سوريا من أكثر دول العالم تلوثاً بالذخائر.

لمى: أم وقائدة على خط النار


عام 2019، نزحت لمى حاج قدور مع عائلتها من ريف حماة إلى مدينة إدلب، تاركة خلفها منزلها وماضيها، لكنها لم تترك شجاعتها. بعد عام، التحقت بمنظمة “هالو تراست” وهي مؤسسة إنسانية تعمل في شمال غرب سوريا منذ عام 2018. أصبحت لمى قائدة فريق إزالة ألغام وهي أم لثلاثة أطفال، وقررت خوض هذا المجال رغم رفض المحيطين بها، لتثبت أن “إزالة الألغام ليست حكراً على الرجال”.

“الحافز الأول كان حماية أرواح المدنيين من أطفال ونساء ورجال، وخاصة بعد عودة الناس إلى بلداتهم وقراهم بعد سقوط النظام”، تقول لمى، مؤكدة أن العمل في نزع الألغام أصبح ضرورة لا خياراً أو ترفاً.

خضعت لمى وزميلاتها لتدريبات مكثفة على يد خبراء متخصصين، وبدأن العمل الميداني بثقة. ومع الوقت، تحول الرفض المجتمعي إلى دعم، بعد أن لاحظ الناس تراجع الإصابات وتزايد الأمان نسبياً في محيطهم.

“كل يوم تسألني ابنتي: ‘ماما، كيف كان التفجير اليوم؟’”، تقول لمى بابتسامة ممزوجة بالقلق، وتضيف: “أطفالي فخورون بي، ويحذّرون أصدقاءهم من لمس أي جسم غريب. أشعر أنني بطلتهم الصغيرة”.

آلية نزع الألغام


تخبرنا لمى بأن بلاغات كثيرة تصلهم يومياً من قبل المدنيين عن وجود صواريخ وذخائر غير منفجرة داخل المنازل أو بمحيطها أو في الأراضي الزراعية، وتشكل هذه البلاغات مصدر قلق إذ أن حجم التلوث يفوق قدرة الفرق العاملة على استيعابه.

تقول: “عند التوجه للمكان الملغوم نكون أمام سلسلة من الإجراءات، تبدأ بالمسح وتحديد حدود المنطقة الملوثة بالمخلفات، ثم نكشف عن الخطر ونوعه ونحسب مسافات الأمان له، ونعمل على إخلاء المنازل المأهولة بالسكن لضمان حمايتهم، كما نضع نقاطاً رئيسية حتى يتمكن الفريق الميكانيكي الذي يضم آليات ثقيلة من مواصلة العمل وفقها، لاستخراج المخلفات الحربية المزروعة في الأرض وتجميعها في منطقة معينة قبل تفجيرها من قبل فرق الإزالة”.

تقول: “عند التوجه للمكان الملغوم نكون أمام سلسلة من الإجراءات، تبدأ بالمسح وتحديد حدود المنطقة الملوثة بالمخلفات، ثم نكشف عن الخطر ونوعه ونحسب مسافات الأمان له، ونعمل على إخلاء المنازل المأهولة بالسكن لضمان حمايتهم، كما نضع نقاطاً رئيسية حتى يتمكن الفريق الميكانيكي الذي يضم آليات ثقيلة من مواصلة العمل وفقها، لاستخراج المخلفات الحربية المزروعة في الأرض وتجميعها في منطقة معينة قبل تفجيرها من قبل فرق الإزالة”.

نساء الدفاع المدني في إدالب - سوريا
نساء الدفاع المدني في إدالب – سوريا


مهمة إنسانية شاقة!


في بداية عام 2025، انتقلت ولاء دياب (27 عاماً) من مركز أريحا التابع للدفاع المدني السوري إلى مركز صوران في ريف حماه. ولاء هي قائدة فريق مسح ذخائر منذ ثلاث سنوات، والدها كان أول من دعمها في هذا الطريق، رغم استنكار المجتمع من وجود امرأة في هذا المجال الخطير.
تقول ولاء: “أقوم بمهمة إنسانية بامتياز: إنقاذ الأرواح وتطهير الأرض. مشاركة النساء في إزالة الذخائر ليست مجرد تمكين، بل ضرورة فعلية للوصول إلى النساء والأطفال في المجتمعات المحافظة”.

تشير إلى أن وجود النساء يسهل عمليات جمع البيانات والتقييم المجتمعي، ما يمنح هذه الفرق قدرة أكبر على التفاعل مع البيئة المحلية.


في بداية عام 2025، انتقلت ولاء دياب (27 عاماً) من مركز أريحا التابع للدفاع المدني السوري إلى مركز صوران في ريف حماه. ولاء هي قائدة فريق مسح ذخائر منذ ثلاث سنوات، والدها كان أول من دعمها في هذا الطريق، رغم استنكار المجتمع من وجود امرأة في هذا المجال الخطير.
تقول ولاء: “أقوم بمهمة إنسانية بامتياز: إنقاذ الأرواح وتطهير الأرض. مشاركة النساء في إزالة الذخائر ليست مجرد تمكين، بل ضرورة فعلية للوصول إلى النساء والأطفال في المجتمعات المحافظة”.
تشير إلى أن وجود النساء يسهل عمليات جمع البيانات والتقييم المجتمعي، ما يمنح هذه الفرق قدرة أكبر على التفاعل مع البيئة المحلية.
جنينها توقف عن الحركة. لا يوجد أطباء في قريتها بريف إدلب. لقد بدأ السباق المحموم لإنقاذ الجنين الآن!

يوم في الميدان


تبدأ ولاء عملها يومياً بجمع البلاغات من السكان حول أجسام مشبوهة. تراجع معدات الفريق، ثم تنطلق إلى الموقع. هناك، يتم تأمين المحيط، ومنع المدنيين من الاقتراب.

ثم تبدأ عملية المسح غير التقني: تصوير الذخيرة، تحديد موقعها بإحداثيات GPS، ووضع علامات تحذيرية واضحة. يُنسق الفريق بعدها مع الجهات المختصة لإزالة الذخيرة وتفجيرها بشكل آمن.
تقول ولاء: “نلتزم بقاعدة ذهبية في عملنا: خطأ واحد سيعني ضحية دون شك”.

تعد القنابل العنقودية من أخطر أنواع الذخائر، فهي صغيرة الحجم ومستديرة تشبه الكرة، وتجذب الأطفال كما حدث مع شام. وغالباً ما تقع في طريق الرعاة والمزارعين.
إلى جانب العمل الميداني، تشارك لمى وولاء زميلاتهن في فرق مجتمعية، لتوعية الأهالي من المخاطر المحتملة التي قد يحدثها انفجار جسم غريب وضرورة أخذ الحيطة والحذر في كل حركة لهم، وخاصة بعد عودة كثيرين من الأهالي لحراثة أراضيهم وزراعتها بعد حرمانهم منها طيلة فترة نزوحهم.

إدلب - شمال سوريا: إتلاف قذيفة هاون من قبل متطوعة في الدفاع المدني السوري
إدلب – شمال سوريا: إتلاف قذيفة هاون من قبل متطوعة في الدفاع المدني السوري

تعد القنابل العنقودية من أخطر أنواع الذخائر، فهي صغيرة الحجم ومستديرة تشبه الكرة، وتجذب الأطفال كما حدث مع شام. وغالباً ما تقع في طريق الرعاة والمزارعين.

إلى جانب العمل الميداني، تشارك لمى وولاء زميلاتهن في فرق مجتمعية، لتوعية الأهالي من المخاطر المحتملة التي قد يحدثها انفجار جسم غريب وضرورة أخذ الحيطة والحذر في كل حركة لهم، وخاصة بعد عودة كثيرين من الأهالي لحراثة أراضيهم وزراعتها بعد حرمانهم منها طيلة فترة نزوحهم.

وتقدر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بأن نحو مليوني لاجئ ونازح سوري عادوا إلى ديارهم عقب سقوط نظام الأسد. 

وتتفق كل العاملات بمجال إزالة الألغام اللواتي قابلناهن، على ضرورة الاستجابة السريعة للشكاوى والنداءات التي يقدمها المدنيون، وإن كانت لأجسام غير خطيرة في بعض الأحيان، فهي تشكل مصدراً للخوف والرعب والحد من الحركة بحرية.

تواجه.ين تحدياً خلال انتاج قصتك الصحفية، أو بحاجة منصة للنشر، أو لديك فكرة مشروع ترغب.ين بالتعاون في العمل عليها، راسل.ينا الآن! 

جهود وآمال


تعمل وزارة الدفاع السورية في الأشهر الأخيرة على تطهير مساحات واسعة من الأراضي من مخلفات الحرب، مع تركيز الجهود على الطرق والمناطق السكنية والزراعية. وتشمل المناطق الأكثر تلوثاً حلب وإدلب وحماة ودرعا ودير الزور والقنيطرة.

التحديات لا تزال كبيرة: الانتشار العشوائي للألغام، وصعوبة الوصول لبعض المناطق، وقلة الموارد. ومع ذلك، تستخدم الفرق تقنيات حديثة مثل الطائرات المسيّرة وأجهزة الكشف والكاسحات.

من جهتها، تعمل فرق الدفاع المدني السوري أو الخوذ البيضاء على تغطية مناطق شمال غرب سوريا، وبحسب تصريح خاص فإن هناك خطة لتوسيع عملهم بحيث يشمل أغلب المناطق السورية الملوثة بذخائر غير منفجرة بعد عملية تقييم احتياج حسب التلوث الموجود، ولتضمين عدد أكبر من النساء ضمن جميع الاختصاصات من مسح وإزالة وتوعية مجتمعية، مع الإشارة إلى وجود 18 عاملة حالياً ضمن فرق المسح والإزالة.

تختم لمى حديثها بالقول: “تدفعني فرحة الأهالي بالعودة إلى بيوتهم وأراضيهم وهي آمنة، لمواصلة العمل وإنقاذ أرواح الناس البريئة وحتى الحيوانات التي لا ذنب لها في الحرب”.

بين الألغام والموت الصامت، تسير نساء سوريا بخطى ثابتة، يحفرن في الأرض لا لزراعة الموت، بل لاجتثاثه. وفي وجه الحرب التي لم تترك حجراً إلا وكان ملغوماً، تصر هؤلاء النساء على صناعة السلام، رغم ضعف الإمكانيات ومحدودية الموارد وعدم قدرة الفرق العاملة على تغطية الاحتياج المطلوب.


تم نشر هذه المادة في موقع نساء ربحن الحرب، وتم إنتاجها ضمن ورشة العمل “دورها التي نظمتها مؤسسة تاز بانتر الألمانية بالتعاون مع شبكة الصحفيات السوريات.