نساء لبنانيات في مواجهة الحرب والإعاقة

تنشر هذه القصة بالتعاون بين منصة عكازة ومنصة نساء ربحن الحرب .


رغم المناشدات المستمرة التي وجّهها المعنيون خلال عام كامل من الحرب الإسرائيلية على لبنان، ظلّ المسؤولون يرفعون راية العجز عن شمول الأشخاص ذوي الإعاقة في خطط الطوارئ التي وُضعت قبل الحرب. ونتيجة لذلك، بقي هؤلاء الأشخاص كما تصفهم لجنة الأمم المتحدة “ضحايا الصراع المنسيون”. ورغم أن لبنان قد شهد نزاعات سابقة أثّرت بشكل مماثل على هذه الفئات، إلا أنّ حرب عام 2024 كانت نقطة تحول بارزة في حجم المعاناة والتمييز الممنهج الذي تعرّضوا له.


يرى فايز عكاشة، مدير مؤسسة مؤشرات تنموية، أن: “هذه الحرب جاءت لتكشف عمق الإهمال الذي تعرّضت له احتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة على مدى سنوات طويلة، لا سيما منذ الانهيار المالي في عام 2019، الذي فاقم أوضاعهم بشكل كبير. ومن هذا المنطلق، لم يكن مستغرباً أن يقابل العديد من الأشخاص ذوي الإعاقة الجمعيات والمبادرات التي تحركت خلال الحرب بمشاعر الإحباط، وانعدام الثقة”. فمعظم تلك الجمعيات اكتفت بجمع المعلومات حول احتياجاتهم دون القدرة على تلبية جزء يسير منها، وإن وصلت بعض المساعدات، فقد جاءت متأخرة جداً، ما أفقدها الأثر المطلوب.


بدورها تؤكد ندى عنيد، رئيسة جمعية مدنيات للمساواة، أن: “الأشخاص ذوي الإعاقة ولاسيما النساء منهن، لم يكونوا يوماً ضمن أولويات أي فريق سياسي، لا على مستوى الحملات الانتخابية ولا في الخطاب السياسي، ولم تُبذل جهود حقيقية لتمكينهن كناخبات أو كمرشحات محتملات، وبالتالي ليس من المستغرب استبعادهن من خطط الاستجابة الإنسانية خلال الأزمات.”


في عام 2023، أطلقت وزارة الشؤون الاجتماعية، بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، الاستراتيجية الوطنية لحقوق ودمج الأشخاص ذوي الإعاقة في لبنان 2023-2030. بهدف تعزيز حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وضمان دمجهم الكامل في المجتمع. ومع ذلك، كانت هناك تحديات كبيرة في تنفيذ هذه السياسات وضمان استفادة الأشخاص ذوي الإعاقة، والنساء منهم بشكل خاص.


ويشدد عكاشة على أن “نجاح أي استراتيجية وطنية، سواء في أوقات السلم أو خلال الأزمات، يتطلب تنسيقاً وتكاملاً حقيقياً بين مختلف الجهات المعنية، من وزارات وبلديات وجمعيات أهلية، إضافة إلى النشطاء من ذوي الإعاقة أنفسهم. فحين تقع الكارثة، يجب أن يعرف كل طرف دوره ومسؤولياته بشكل واضح، بدلاً من العمل بشكل فردي، كما حدث خلال هذه الحرب، حيث سادت حالة من الارتجال وغياب التنسيق وضعف الاستجابة خلال جهود الإغاثة.”


ومع ازدياد أعداد ذوي وذوات الإعاقة نتيجة الحرب والنزوح، تؤكد عنيد أهمية تضمين خطة التعافي سياسات دامجة تكفل لهم بيئة مهيأة في المرافق العامة والخاصة. بحيث تقترن المساعدات الدولية المقدمة للبنان بإصلاحات تضمن تغيير السياسات لصالح هذه الفئة، مع وضع آليات واضحة للمحاسبة والمراقبة، بحيث تكون هذه السياسات الدامجة مُلزِمة للجميع، بدلاً من الاكتفاء بتشجيع مبادرات فردية غير مستدامة.


وأكدت عنيد أن الانتخابات البلدية في أيلول ستكون اختباراً لمدى التزام الحكومة الجديدة بقضايا النساء ذوات الإعاقة. ومن هنا تتمثل مسؤولية الناشطين والمجتمع المدني ومن ضمنهم “مبادرة مدنيات” في الوصول إلى صناع القرار وتوعيتهم، وتوجيه المرشحين والمرشحات لاحتياجات هذه الفئة. كما دعت عنيد النساء ذوات الإعاقة إلى أن يكنّ في طليعة المدافعات عن حقوقهن، مؤكدة أنهن قادرات على حمل قضاياهن بأنفسهن، بعيداَ عن أي تصورات تقلّل من شأنهن أو فرصهن.


ورغم التحديات الكبيرة التي واجهها لبنان خلال الحرب الأخيرة، تمكنا من توثيق ثلاث قصص ملهمة لنساء ذوات إعاقة استطعن تجاوز العقبات والمساهمة بفعالية في مجتمعاتهن في أصعب الظروف. هذه القصص تمثل مصدر إلهام للآخرين، وتؤكد على أهمية توفير الدعم والتسهيلات اللازمة لتمكين أصحابها من تحقيق إمكاناتهن الكاملة.


نويل تيان في مواجهة الطيران والمجهول
في زمن الحرب، حيث تتساقط القذائف كالمطر، وتصبح الأيام والليالي مزيجاً من الخوف والتوتر، اختارت نويل تيان، نائب رئيس رابطة الجامعيين اللبنانيين للمكفوفين، أن تبقى صامدة في منزلها رغم أصوات الانفجارات التي كانت تهز جدرانه. لم يكن قرارها بالبقاء سهلاً، لكنه كان بمثابة انتصار شخصي على مخاوف رافقتها منذ حرب تموز 2006.


“في حرب تموز، كنت من أوائل الذين غادروا منازلهم إلى أماكن أكثر أماناً، رغم أن بيتي في بيروت ليس قريباً من الضاحية الجنوبية التي تعرضت للقصف اليومي. لكن في هذه الحرب، قررت البقاء والمواجهة.” تحكي نويل عن تحول كبير في موقفها تجاه الحرب، إذ أنها تتوتر بشدة من أصوات الطائرات والصواريخ، وكلفها ذلك ليالي عديدة بلا نوم، لكنها وجدت في سماعات الرأس والموسيقى وسيلة لتهدئة نفسها ومساعدتها على الاسترخاء.


الحرب بالنسبة للأشخاص المكفوفين ليست فقط أصواتاً مرعبة أو ليالي من الأرق، بل هي حالة مستمرة من العجز عن إدراك حجم الدمار أو حتى تقدير مدى قرب الخطر. “لا نستطيع رؤية الطائرات الحربية، ولا معرفة أين ستسقط الصواريخ أو حجم الدمار الذي تخلفه. وبينما يتمكن المبصرون من تقييم الموقف وتجنب المخاطر، لا نستطيع نحن سوى الاعتماد على ما نسمعه، وهو دائماً ناقص ومبهم”، تقول نويل. هذا الشعور بالضياع جعل الحرب أكثر قسوة عليها، لكنه لم يمنعها من أداء واجبها.


كانت نويل خلال الحرب الأخيرة على رأس عملها في رابطة المكفوفين، وتحملت مسؤوليات جسيمة، حيث كان عليها التنسيق مع المكفوفين لضمان نقلهم إلى أماكن آمنة، وتأمين المساعدات اللازمة لهم. وفي وقت كانت فيه البلاد تعاني من الفوضى والدمار، استطاعت أن تكون صلة الوصل بين من يحتاجون الدعم وبين الجهات القادرة على تقديمه. “استقبلت في بيتي بعض الأصدقاء الذين نزحوا من بيوتهم، وكنا نواسي بعضنا البعض في تلك الأشهر العصيبة. كان هذا من أكثر الأمور التي خففت عني شعور العزلة والخوف”، تروي نويل.


ومع كل هذا الجهد، لم تكن الحرب قاسية فقط بالقنابل والانفجارات، بل أيضاً بالإشاعات والتهديدات بالإخلاء التي كانت تنتشر وتزيد من حالة الهلع. تروي نويل عن اتصال هاتفي تلقته من رقم مجهول، لكنها رفضت الرد. “لم أرِد أن أعيش حالة توتر إضافية، ففضّلت أن أتجاهل الأمر بالكامل.” قرار بسيط لكنه يحمل دلالة عميقة: أحياناً، يكون الانتصار في الحرب هو التحكم فيما يسمح الإنسان لنفسه بأن يخاف منه.


أما عن موقف الحكومة اللبنانية تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة خلال الحرب، فكان الأمر مخيباً للآمال كالعادة. “الدولة لم تكن تهتم بملف الإعاقة في أوقات السلم، فكيف نتوقع منها أن تهتم به في أوقات الحرب؟” تتساءل نويل بحسرة. بالنسبة لها، الأولوية في الأزمات يجب أن تكون للأشخاص ذوي الإعاقة، فهم الأكثر هشاشة والأكثر احتياجاً للحماية والمساعدات.


رغم كل هذه التحديات، خرجت نويل من الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان أقوى مما كانت عليه. واجهت خوفها، ثبتت في منزلها، وساعدت الآخرين في أصعب الظروف. لم تكن الحرب مجرد اختبار لصمودها، بل كانت فرصة لها لإثبات أن النساء، حتى في أشد الأوقات ظلمة، يستطعن الانتصار بطرقهن الخاصة.

حنان بظاظا تطبخ وسط الدمار
في خضم العدوان الإسرائيلي على لبنان، حين تتحول المدينة إلى مشهد من الدمار والصخب، كانت حنان بظاظا، الناجية من انفجار مرفأ بيروت، تنهض من فراشها باكراً لتستقل سيارة أجرة متجهة إلى “المطبخ الدامج” في مار مخايل، المكان الذي أصبح ملاذها وميدان عملها خلال الحرب. لم تكن أصوات الانفجارات التي تهز العاصمة كفيلةً بردعها عن مغادرة منزلها في عائشة بكار، فالتنقل وسط القصف المتكرر في بيروت كان أشبه بالمغامرة، لكنها رأت في ذلك “مخاطرة تستحق العناء”.


حنان، التي تبلغ من العمر 31 عاماً، أصيبت بإعاقة جزئية في ساقها اليسرى جراء انفجار المرفأ في 4 آب 2020. منذ ذلك اليوم، تغيرت حياتها بالكامل، لتأتي الحرب الأخيرة وتعيد إليها ذكريات مؤلمة، فتجد نفسها وسط أصوات الانفجارات مستعيدة لحظات الرابع من آب “المشؤوم”، كما تسميه، حين فقدت شقيقتها وزوج شقيقتها، وأمضت بعدها شهوراً طويلة في العلاج والتأهيل حتى استعادت قدرتها على المشي باستقلالية. ومع ذلك، رفضت الاستسلام للعزلة، ووجدت في انضمامها إلى “المطبخ الدامج” فرصة لإعادة بناء ذاتها.


تم إنشاء هذا المطبخ بعد انفجار المرفأ بمبادرة من هيئة الأمم المتحدة للمرأة و” الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً ”LUPD لتمكين النساء ذوات الإعاقة وأمهات الأشخاص المعوقين من العمل وتقديم وجبات الطعام للعائلات المحتاجة. ومع اندلاع الحرب، تحول هذا المطبخ إلى مركز دعم إنساني جديد، حيث أصبح مسؤولاً عن توفير الطعام للنازحين الذين اضطروا لمغادرة منازلهم في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية.


“كنت بحاجة إلى هذه الفرصة، ليس فقط من أجل الدخل، ولكن أيضاً من أجل الشعور بالرضى الذاتي، وكأنني أنتصر على خوفي وعلى إحساسي بالعجز الذي رافقني منذ إصابتي” ، تقول حنان. “تحضير الطعام للعائلات النازحة، التي تعيش ظروفاً نفسية واقتصادية صعبة، منحني شعوراً بالقوة، ليس فقط لتجاوز فقدان شقيقتي والانهيار النفسي والجسدي الذي رافق مرحلة العلاج، بل أيضاً لمواجهة مخاوفي خلال الحرب. استطعت التغلب على مشاعر الإحباط والقهر، وسط ما يعانيه وطني من همجية العدوان الإسرائيلي، وخسارتي لأشخاص أعرفهم في هذه الحرب”.


رغم الدمار الذي تعيشه البلاد، لم تتخلَّ حنان عن حلمها في استكمال تعليمها الجامعي. فبعد أن اضطرت إلى إيقاف دراستها في الاقتصاد عقب إصابتها، تفكر اليوم في العودة لإنهاء رسالة الماجستير، بحثاً عن مستقبل أكثر استقراراً. “أريد أن أنجح في اختبار الحياة، أن أكون أقوى وأكثر تأثيراً” ، تقول بثقة.


حنان لم تكن تكافح فقط من أجل نفسها، بل من أجل عائلتها أيضاً. فهي اليوم مسؤولة عن ولدي شقيقتها الراحلة، تشرف على تربيتهما وتعليمهما إلى جانب والدتها. بين العمل في “المطبخ الدامج” والمسؤوليات العائلية، تجد نفسها في سباق مع الحياة، لكنها لم تفكر يوماً في الاستسلام.


وسط الفوضى والانفجارات، صنعت حنان قصتها الخاصة في الصمود. لم تكن الحرب مجرد تهديد جديد في حياتها، بل كانت فرصة أخرى لتثبت أن النساء، حتى وسط الركام، يستطعن الانتصار بأسلحتهن الخاصة: الإرادة، العمل والتحدي.

ريم وهبي تخلق الأمل من الصمت
حين بدأت أصوات الانفجارات تهز الضاحية الجنوبية لبيروت، لم يكن بمقدور ريم وهبي، الفتاة الصماء، أن تسمع ما يحدث حولها. لكنها شعرت بالاهتزازات التي اخترقت جدران منزلها، وشاهدت القلق في عيون من حولها، وأحست بالخوف الذي خيّم على الجميع. كانت أختها السامعة هي نافذتها إلى العالم الخارجي، تنقل لها الأخبار، تخبرها عن مواقع القصف، وتحاول تهدئتها كلما زادت حدة الهجمات.


لم يطل بها المقام في منزلها، فقد اشتد القصف واضطرت للنزوح إلى منزل جدها في منطقة أكثر أمناً. لم يكن القرار سهلاً، خاصة أنها كانت قد تزوجت حديثاً، وكانت تخشى أن تعود يوماً ولا تجد بيتها سليماً. ورغم تطمينات عائلتها بأن الرحيل مؤقت، لم تستطع التخلص من الخوف الذي ظل يرافقها. لم يكن القلق من الموت وحده ما يؤرقها، بل شعورها بالعجز عن معرفة ما يجري. وكثيراً ما كانت ترفض النوم خلال الليل، متوجسة من أن يحدث قصف مفاجئ دون أن تدركه، فاهتزازات الجدران لا تخبرها ما إذا كان ذلك ناجماً عن اختراق الطائرات لجدار الصوت أم عن غارة جوية أصابت المكان.


خلال النزوح، كانت تتواصل مع أصدقائها الصم لتبادل الأخبار، ومحاولة تفسير الأحداث التي تجري حولهم. في ذلك الوقت، أدركت ريم أن للأشخاص الصم احتياجات طارئة في الحروب، لا أحد يأخذها بعين الاعتبار. فالمساعدات الإغاثية لم تكن مجهزة لهم، ولا أحد كان يهتم بتوفير الإرشادات بلغة الإشارة، مما جعلهم أكثر عرضة للارتباك والمخاطر.


استعادت ريم ذكريات طفولتها في حرب تموز 2006، حين كانت صغيرة واضطرت للنزوح، وشعرت حينها بأن العالم لا يراها ولا يسمعها. لكن هذه المرة، قررت ألا تعيش الشعور نفسه مجدداً. جمعت أصدقاءها الصم، وأسسوا معاً مبادرة “Deaf Aid”، وهو فريق تطوعي لمساعدة النازحين من الصم. بدأوا بتنظيم أنفسهم لتوزيع الطعام والأدوية، وتأمين الأغطية والفراش لمن فقدوا منازلهم. توزعوا على مناطق مختلفة، يحاولون الوصول إلى أكبر عدد ممكن من المحتاجين، وكانوا في كثير من الأحيان، المصدر الوحيد للمساعدة للأشخاص الصم الذين لم يكن أحد يهتم باحتياجاتهم.


مع استمرار الحرب، كانت الأخبار المضللة وإنذارات الإخلاء الوهمية التي يرسلها الجيش الإسرائيلي تزيد من ارتباكها، لكن عائلتها حاولت طمأنتها بأن السامعون أنفسهم يعانون من هذه الفوضى الإعلامية ونقص المعلومات، لكن بالنسبة للصم فإن الأمر أكثر تعقيداً، لأن الأخبار لا تصل إليهم بلغتهم الخاصة.


عندما انتهت الحرب، عادت ريم إلى بيتها لتجده قد تضرر جزئياً، فأسرعت مع عائلتها لإصلاحه. شعرت في تلك اللحظة أنها لم تخسر الحرب، بل ربحت معركة شخصية ضد الخوف والصمت. لم تعد الفتاة الصغيرة التي نزحت قبل سنوات دون أن يسمعها أحد، بل أصبحت امرأة واجهت الدمار بالأمل، ووقفت مع مجتمعها في أحلك الأوقات. في نهاية المطاف، لم تكن الحرب مجرد لحظة رعب في حياتها، بل كانت فرصة لتثبت أن النساء، حتى الصم منهن، قادرات على أخذ زمام المبادرة، حتى في قلب الفوضى.

تم إعداد هذا التقرير في إطار مشروع “مساحة معلومات آمنة لتعزيز مشاركة النساء في المجال العام” بدعم من هيئة الأمم المتحدة للمرأة – لبنان، والسفارة البريطانية في بيروت. إن محتوى هذا المقال لا يعكس بالضرورة وجهات نظر هيئة الأمم المتحدة للمرأة والسفارة البريطانية في بيروت.