وردة الشنطي/غزة
في حي النصر المكتظ بالحياة في مدينة غزة، كانت أم عمر سعيد تمثل قصة استثنائية من الصمود والأمل، فبإعاقتها البصرية، استطاعت أن تبني عالمًا صغيرًا داخل شقتها المتواضعة، حيث تشارك الحب والمسؤولية مع زوجها وأطفالها الثلاثة. كانت تدير منزلها مستندة على ابنها الأكبر، عمر، ذو السنوات العشر، يركض ليشتري الخبز أو يساعدها في تدبير أمورهم اليومية.
نشطت أم عمر في الدفاع عن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وبين جلسات التوعية ولقاءات الدعم، تعرفت على ريما، السيدة بإعاقة سمعية التي تمتلك موهبة مدهشة في صناعة الحلوى، وثالثهما سحر، السيدة ذات الإعاقة الحركية التي كانت صلة الوصل بين الاثنتين.
قبل العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، قدَّر الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عدد ذوي الإعاقة في قطاع غزة بحوالي 58,000 فرد، عدد ساهم العدوان الإسرائيلي المتكرر على القطاع في زيادته، وبينما يزيد حالياً مع استمرار القصف واستهداف المدنيين في القطاع من قبل القوات الإسرائيلي، تواجه النساء ذوات الإعاقة من النازحين، ومنهن الصديقات الثلاث، واقعاً جديداً يحرمهن من حقوقهن في العيش بكرامة والحصول على الخصوصية.
فراق بعد صحبة
وجدت أم عمر نفسها في مدرسة مكتظة بالنازحين، عاجزة عن توفير الأمان لأطفالها، تحاول إعادة بناء حياة أسرية وسط الفوضى.
أما ريما، فنزحت مع عائلتها إلى منطقة المواصي بمدينة خانيونس، بعيداً عن الأسواق التي اعتادت أن تبيع فيها منتجاتها، ما اضطرها للتخلي عن مشروعها الصغير.
وسحر، حلقة الوصل بين أم عمر وريما، انتقلت إلى مخيم المغازي وسط القطاع، والذي تعاني بنيته الدمار بعد اجتياحه بريّاً من قبل الجيش الاسرائيلي، فباتت سحر حبيسة غرفة في منزل مكتظ، تتواصل مع صديقتيها عبر الرسائل النصية.
تغيرت حياتهن لكن الرابط بينهن ظل صامدًا. إلا أن الزحام في مخيمات النزوح فرض غياب الخصوصية عليهن وعلى العديد من النساء ذوات الإعاقة

أما أم عمر، فوجدت نفسها عاجزة عن القيام بأقل المهام، تقول: “أشعر بأنني أفقد جزءًا من إنسانيتي، تلك اللحظات التي كنت أعتمد فيها على نفسي أصبحت الآن غائبة، وأصبح الحلم في الحصول على مكان خاص بي بعيد المنال”.
أما ريما، فأصبح الوصول إلى كل ما تريد، حتى طلب الطعام أو الشراب، أمراً عسيراً، خاصة مع تواجدها مع الكثير من الناس غير الواعين باحتياجاتها وكيفية التعامل مع إعاقتها، تقول: “أعيش في خيمة لا توفر لي أي حماية، كأنني محاطة بجدران شفافة لا تخفي شيئًا، وكوني سيدة بإعاقة سمعية يجعل الأمور أكثر تعقيدا أحيانًا”.
تزيد معاناة سحر مع صعوبة إيجاد لحظات الخصوصية كانت تتيح لها التنفس وإعادة شحن طاقتها، فالخيمة لا توفر المساحة والوقت الذي تحتاجه، حتى مع تغيير الملابس أو الاستحمام، تقول: ” أشعر بأن الجميع يراقبني، ففي هذه الظروف، أصبح حتى أبسط الحقوق يحتاج لمقايضة صعبة”.
واحدة من تلك اللحظات التي تفتقدها سحر، هي قدرتها على دخول حمام مجهز لها، الأمر الذي كان يمنحها استقلالية وخصوصية، لا تمنحها حمام مراكز النزوح: “الخصوصية بالنسبة لي هي حق أساسي، لكن في مدارس النزوح، شعوري بها يتلاشى كلما احتجت استخدام الحمام”.
تضيف: ” أحياناً وأنا في الحمام، أشعر بأنني مرصودة، وأن أي حركة لي يمكن أن تكون موضوعاً للنقاش بين الآخرين، لا أتصور كيف سيكون شعوري لو كان هناك تصميم يوفر لي الخصوصية المطلوبة، بدلاً من أن أكون عرضة لنظرات الفضول أو الإهمال”.
تذكر أم عمر نفس التحدي، إلا أن معاناتها تخلف قليلاً عن صديقتها، تقول:¨كثيرًا ما أواجه مواقف تجعلني أشعر بأنني في مكان غير مريح، حيث لا أستطيع تحديد ما إذا كان هناك شخص آخر في الحمام، وهذ وهذا يزيد من مشاعر القلق وعدم الأمان”.
تشير الناشطة الحقوقية في مجال الإعاقة حنين السماك، إلى استخدام المرافق المصممة لذوي الإعاقة في مراكز النزوح، مثل الغرف المخصصة والحمامات المواءمة من قبل النازحين لأغراض المعيشة، خاصة في ظروف الحرب، بينما يستخدم العاملون في المراكز الحمامات المجهزة لاحتياجاتهم الخاصة.
وأضافت السماك أن النساء ذوات الإعاقة يعانين بشكل خاص، لا سيما في المراكز الكبيرة مثل المدارس، حيث يُواجهن نظرات دونية تترجم إلى شفقة، تُرافقها كلمات مثل “حرام” و”مسكينة”، مما يعزز الشعور بالعزلة والانكسار، أما عن المراكز الأصغر حجماً، مثل الخيام، تحمل تحديات إضافية تتعلق بالخصوصية، حيث يصعب على النساء تغيير الملابس أو الذهاب إلى الحمام بأمان وراحة.
وأشارت السماك إلى أن التوزيع الحالي للمساعدات الإنسانية لا يأخذ في الاعتبار احتياجات النساء ذوات الإعاقة، فلا تقدم الجهات المعنية المساعدات بما يتناسب والإعاقات المختلفة.

adminEdit Profile
بحسب تقرير من الأمم المتحدة صدر في بداية شهر ديسمبر/كانون الأول، سجلت المنظمة حوالي 380,000 نازح يحتمون في أكثر من 100 مبنى مدرسي تابع للأونروا في قطاع غزة، كما أن 1.9 مليون شخص في غزة نزحوا مرة واحدة على الأقل منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023، هذه الأرقام تشرح التحديات التي يواجهها المسؤولون عن مراكز النزوح، وتعكس معاناة الأشخاص ذوي الإعاقة من النازحين والنازحات.
يضاف إلى هذه التحديات، غياب لغة التواصل، مما يعوق دمج النساء ذوات الإعاقة السمعية في المجتمع، ويزيد من شعورهن بالعزلة، كما أن النساء ذوات الإعاقة البصرية يواجهن صعوبات في التحرك بأمان داخل المراكز، ما يزيد من اعتمادهن على الآخرين بشكل كبير.
أكثر من الصديقات الثلاث
معاناة النساء ذوات الإعاقة لا تقتصر على الصديقات الثلاث، بل تمتد لأخريات مثل ليلى، التي تعيش بإعاقة بصرية في غرفة تضم خمس عائلات في مركز للنزوح في وسط غزة.
تصف ليلى وضعها: “كل شيء مشترك، وكل حركة أو كلمة أقوم بها تكون مرئية ومسموعة للجميع، أشعر وكأنني مكشوفة طوال الوقت”، تضيف ليلى:”كل لحظة تمر في هذا المكان أصبحت معركة للحفاظ على هويتي وخصوصيتي”.

أما آية، المولودة بإعاقة سمعية جزئية، وتعيش في خيمة في منطقة الزوايدة، فتقول بنبرة حزينة: “كان المعتاد بالنسبة لي أن أجد مكانًا للاختلاء بنفسي، لكن الآن في وسط هذا التكدس، أصبحت تلك اللحظات من الهدوء بعيدة جدًا عني، أحلم فقط بأن أجد مكانًا أهرب إليه بعيدًا عن الأصوات والمشاهد التي لا تتوقف”.
تقول الأخصائية النفسية بسمة يونس إن النساء ذوات الإعاقة في غزة يواجهن تحديات كبيرة، خاصة في مراكز النزوح التي تفتقر إلى الترتيبات الضرورية لضمان حياة كريمة، وبحسب يونس، فغياب الخصوصية في هذه المراكز يؤثر بشكل مباشر على الحالة النفسية للنساء، ما يزيد من التوتر والخوف ويعزز مشاعر الإحباط والعزلة، وقد يؤدي ذلك إلى الاكتئاب ومشكلات نفسية متفاقمة.
وأوصت يونس بضرورة تنسيق الجهود بين مراكز الإيواء والمؤسسات الميدانية لتقديم دعم متكامل يشمل النواحي النفسية والاجتماعية والصحية، مع التأكيد على أهمية إنشاء أماكن مهيأة تلبي احتياجات النساء ذوات الإعاقة بشكل مستدام.
تشير السماك إلى بعض الإجراءات الإيجابية التي بدأت تظهر في بعض مراكز النزوح، مثل إشراك بعض الإدارات النساء في عملية اتخاذ القرار والإدارة، ما أتاح لهن فرصة التعبير عن احتياجاتهن، كما خصصت بعض المراكز بعض المراكز خيماً خاصة للأشخاص ذوي الإعاقة، ووفرت أخصائيات نفسيات واجتماعيات تقديم الدعم اللازم للنازحات.
انتقدت السماك نقص الوعي لدى بعض المؤسسات المعنية، حيث يعتقد الكثيرون أن توفير كرسي متحرك أو أداة مساعدة كافية لضمان الخصوصية والكرامة، إلا أن الأمر يتطلب فهماً أعمق لاحتياجات هذه الفئة، بما في ذلك توفير وسائل تواصل تناسب احتياجاتهم.

وشددت السماك على ضرورة زيادة الوعي والتدريب لدى العاملين في مراكز الإيواء، وأوصت بتخصيص جزء من المساعدات بما يتناسب مع نوع الإعاقة واحتياجات النساء ذوات الإعاقة، لضمان حصولهن على الرعاية والدعم الذي يستحقونه.
وقال الجهاز المركزي للإحصاء “إن عدد الإصابات الجسيمة التي غيّرت مجرى الحياة في قطاع غزة والتي تتطلب إعادة تأهيل مستمرة قُدرت بحوالي 25% من إجمالي عدد الإصابات، أي ما لا يقل عن 26,140 شخصا، منذ بداية الحرب وحتى تاريخ 24/11/2024.
تفرقت الصديقات الثلاث وصار ما يجمعن معاناتهن وافتقادهن للاستقلالية والخصوصية، إضافة إلى رسائلهن النصية المستمرة للاطمئنان على بعضهن البعض، ورغبة بإيجاد طريق العودة إلى حياتهن القديمة، واللقاء من جديد.