من النور إلى النفوذ: كواليس تحقيق استقصائي في فساد دعم الطاقة المتجددة في سوريا

حنين السيد
هل يمكن أن تتحول الطاقة الشمسية برأيك من حل لأزمة الكهرباء في سوريا إلى عبء جديد على المواطنين؟
من المستفيد فعلاً من دعم الطاقات المتجددة: الناس أم شبكات النفوذ؟

في واقع تتحكم فيه المصالح، تبدو مضار الطاقة النظيفة أكبر من منافعها. هذا ما أثبتته الصحفية رقية عبادي من خلال تحقيق استقصائي حمل عنوان “الطاقة الشمسية في سوريا: من فرصة للحل إلى شبكة فساد”، كشفت من خلاله الصحفية، ضمن الدورة الثانية من «برنامج منح الجمهورية للصحفيات السوريات» وبالتعاون مع الجمهورية.نت، عن تحوّل صندوق دعم الطاقات المتجددة إلى أداة لتعزيز شبكات النفوذ المرتبطة بالنظام السوري السابق، من خلال قروض بلا فوائد ظاهراً، لكنها مشروطة بتعاملات مع شركات محلية مرتبطة بمصالح سياسية وتجارية واسعة.

منهجية التحقيق: تنوع المصادر وتكامل الأدوات
اعتمد التحقيق على منهجية استقصائية متعددة المراحل، جمعت بين العمل الميداني وتحليل الوثائق والبيانات، إلى جانب البحث في شبكات المصالح الاقتصادية.
في المرحلة الأولى، ركزت الصحفية على جمع الشهادات من الميدان، حيث أجرت مقابلات مع 25 مصدراً، شملت مستفيدين من القروض، مهندسين، مقاولين، مصرفيين ومستوردين، من مناطق مختلفة في دمشق وريفها. ساهمت هذه الشهادات في رسم صورة أولية حول واقع تنفيذ مشاريع الطاقة الشمسية المدعومة، والمشكلات التي تواجه المواطنين في الحصول على القروض أو الاستفادة من المعدات. تقول الصحفية لنساء ربحن الحرب لا يجب الاعتماد على عدد قليل من المصادر وإنما يتطلب الأمر ما يزيد عن 12 مصدر على أقل تقدير.

بالتوازي، تم تحليل عدد من الوثائق الرسمية المرتبطة بصندوق دعم الطاقات المتجددة، أبرزها القانون رقم 23 لعام 2021، والقرار الوزاري رقم 1578 المتعلق بمعايير الجودة. هذا التحليل ساعد على فهم الإطار القانوني للصندوق وآلية عمله، ومقارنته بالتطبيق العملي الذي كشفته الشهادات.
كما عمل فريق التحقيق على تتبع الشركات المستفيدة من القروض، من خلال تحليل السجلات التجارية، وربطها بأسماء شخصيات فاعلة اقتصادياً، بعضها مرتبط بجهات سياسية. وتم الاستعانة ببيانات من مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية لتوسيع قاعدة المعلومات حول هذه الشبكات، والجهات المتحكمة في سوق استيراد المعدات.

وفي خطوة لاحقة، تتبع التحقيق مسار استيراد الألواح الشمسية والمعدات من الصين إلى سوريا، مروراً بمحطات وسيطة مثل ميناء جبل علي في الإمارات، ومعبر نصيب الحدودي مع الأردن. أُجريت مقابلات مع عدد من المستوردين لتوضيح تأثير الرسوم الجمركية والإتاوات على الأسعار، كشفت عن تفاوت واضح في آليات التخليص الجمركي؛ حيث تواجه الشحنات الصغيرة تأخيرات قد تمتد لأشهر، في حين تُمنح شحنات كبار التجار، المعروفين بنفوذهم وقربهم من النظام السابق، أولوية في الدخول والتخليص.

أوضحت هذه الشهادات أن السوق لا يعمل وفق مبدأ المنافسة الحرة كما يُعلن، بل يخضع لهيمنة عدد محدود من المستوردين الذين يتحكمون بالأسعار، ونوعية المعدات، وحتى ببعض القرارات التي تُتخذ على المستوى الرسمي.
كما شمل التحقيق مراجعة مواد مرئية نُشرت عن مصنع الألواح الشمسية في اللاذقية، وتحليلها للتحقق من مصدر المعدات المستخدمة فيه، ومقارنة ذلك بالتصريحات الرسمية حول دعم الصناعة المحلية.

اعتمدت الصحفية في توثيق المعلومات على تقاطع الشهادات مع الوثائق والمصادر العلنية، بهدف الوصول إلى صورة دقيقة، والحد من الاعتماد على رواية واحدة، خاصة في ظل غياب ردود واضحة من الجهات الرسمية المعنية. تقول الصحفية” لا يجب أن نسمح للمصدر ان يوجهنا، تجنباً للانجرار وراء المعلومات المضللة من جهة والانتباه  لإمكانية وجود عداءات ورغبة في تصفية الحسابات بين الأشخاص من جهة أخرى، لذلك نجمع المعلومات ثم نقوم بمقاطعتها بكل حيادية، دون الانجرار وراء العواطف”

السرد المتقاطع: تقنية توثيقية تعزز الجانب الإنساني وتربط بين الوقائع
اعتمدت رقية العبادي في بناء تحقيقها على أسلوب السرد المتقاطع، وهو أحد أساليب الكتابة الاستقصائية التي تُستخدم لربط القضايا الكبرى بتجارب فردية، ما يسهم في تبسيط القضايا المعقدة ويمنحها بُعداً إنسانياً.
في بداية التحقيق، قدّمت قصة المواطن “ملهم جعفر” كمدخل سردي إنساني يسلط الضوء على التحديات اليومية التي يواجهها السوريون في ظل انقطاع الكهرباء، شكّلت تجربة ملهم نقطة انطلاق للقارئ، لأنها قصة واقعية ومألوفة لدى كثيرين، تتناول همّاً معيشياً مباشراً.

لكن التحقيق لم يتوقف عند حالة واحدة، بل استخدمت الكاتبة التقاطع بين عدد من الشهادات الأخرى، مثل شهادة “خالد”، الموظف الذي تراجع عن فكرة القرض بعد تجربة صديقه الفاشلة، و”نور حمزة”، المهندسة التي تحدثت عن تدني جودة المعدات وممارسات بعض الشركات المستوردة. هذا التنقل بين القصص المختلفة، مع الحفاظ على السياق العام، سمح بإظهار أوجه متعددة للمشكلة: من معاناة الأفراد، إلى خلل في آليات الإقراض، إلى ضعف الرقابة على السوق، ثم إلى علاقات المصالح بين الشركات والسلطة.

تقول الصحفية: “من يرغب في توظيف السرد المتقاطع في تحقيقاته الاستقصائية، عليه أنسنه المادة والبدء باختيار شخصية مناسبة تمثل جوهر القضية، تُستخدم كنقطة دخول إنسانية تُقرب القارئ من المشكلة. ثم تُبنى حولها روايات أخرى ذات صلة، تُظهر أن ما يبدو تجربة فردية وهو في الحقيقة جزء من نمط أوسع”.

“ولضمان تماسك السرد، يجب أن يكون الانتقال بين القصص سلساً، يعتمد على نقاط تقاطع واضحة، مثل ظروف مشابهة أو نتائج متكررة. كما يُنصح بـالربط بين القصص والسياق الأوسع، كالقوانين أو السياسات أو الديناميات الاقتصادية، لتفسير ما يعيشه الأفراد ضمن منظومة متكاملة”.
“وأخيراً، من المهم الحفاظ على خيط سردي واضح، سواء كان زمنياً أو موضوعياً، يساعد القارئ على تتبع الخط الأساسي للتحقيق دون تشويش، مع موازنة الجانب الإنساني بالمعلومة الدقيقة”

التحديات: صمت رسمي وحساسية مصادر
واجهت معدّة التحقيق العديد من التحديات الجوهرية، أبرزها سقوط النظام السوري أثناء إعداد التحقيق وصعوبة الوصول للمصادر بسبب الأوضاع عامّة كما تعذر الحصول على ردود رسمية من وزارة الكهرباء قبل سقوط النظام، التي امتنعت عن الإجابة بحجة “انتظار التصريح من المكتب الإعلامي”، رغم محاولات متعددة للتواصل.

كما اصطدمت الصحفية بحذر شديد من بعض المصادر، خاصة العاملين ضمن صندوق دعم الطاقات المتجددة أو في القطاع المصرفي، حيث عبّر العديد منهم عن خشيتهم من التبعات الأمنية أو الإدارية، ما تطلب بناء الثقة والحفاظ على سرية الهويات طوال مراحل العمل.
وجرى تنفيذ التحقيق في بيئة إعلامية مغلقة، تتداخل فيها الرقابة السياسية مع المصالح الاقتصادية، مما فرض التعامل بدقة عالية مع الوثائق، والتحقق من المعلومات من أكثر من مصدر مستقل، لتفادي أي أخطاء أو ثغرات قد تُستغل لإسكات التحقيق أو الطعن فيه.

كما اضطرت الصحفية للمشاركة في الكثير من الصفحات المتخصصة بمشاكل الطاقة الشمسية على مدار سنتين متواصلتين قبل اعداد التحقيق حتى يتكون لديها خلفية ممتازة عمّا تريد الحديث عنه.
ورغم كل هذه الصعوبات، التزمت الصحفية بمنهجية توثيق دقيقة، ضمنت تطابق المعلومات وتقاطعات الشهادات، ما ساهم في إنتاج مادة مدعومة بالأدلة، وقابلة للتحقق من مصادرها.

التقنيات الاستقصائية والرقمية المستخدمة
خلال لقائنا مع الصحفية، أوضحت أنها اعتمدت على مجموعة من الأدوات الرقمية والتحليلية التي ساعدتها في توثيق المعلومات وتوسيع نطاق التحقيق. تقول:
“اعتمدت كثيراً على تحليل الصور والفيديوهات، خاصة تلك التي نُشرت من داخل مصنع الألواح الشمسية في اللاذقية. لاحظنا وجود معدات تحمل شعارات شركات تخضع لعقوبات دولية، مثل Siemens وMitsubishi Electric، وهو ما أكد استخدام تكنولوجيا محظورة رغم الحصار المفروض.”
وتتابع: “كما لجأت إلى البحث العكسي عن أرقام الهواتف الموجودة في إعلانات بعض الشركات، ما قادنا إلى تقاطعات غير متوقعة بين شركات تعمل في قطاع الطاقة، وأخرى في مشاريع عقارية مثل ماروتا سيتي، مما فتح باباً لفهم شبكة المصالح الأوسع.”

وتضيف: “في تتبع الشبكات الاقتصادية، كان التعاون مع مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية أساسياً، حيث ساعدونا في تحليل السجلات التجارية وربط الأسماء ببعضها، سواء من خلال الشراكات العائلية أو المصالح المتقاطعة، وكان لهذا الجزء دور محوري في كشف النفوذ الذي يدير سوق الطاقة من خلف الكواليس.”

أثر التحقيق
رغم أن صندوق دعم الطاقات المتجددة توقّف عن العمل بعد سقوط نظام الأسد، إلا أن التحقيق لم يكن مجرد رصد لمرحلة منتهية، بل وثيقة توثّق كيف استُخدمت موارد الدولة لخدمة شبكة مصالح مترابطة، جمعت بين رجال أعمال نافذين لازال بعض منهم على رأس عمله حتى الآن، وجهات أمنية، وشركات عقارية، في وقت كان المواطن يبحث فيه عن الحد الأدنى من الاستقرار الطاقي.

في النهاية، قد لا تُحدث التحقيقات تغييراً فورياً في السياسات، لكنها قادرة على تثبيت الرواية الحقيقية، ومساءلة من لم يكن يُسأل، وفتح النقاش حول من يُقرر مصير الطاقة… ومن يستفيد منها.
مصدر مهم للتقارير الاقتصادية والتحليلات حول الشركات، القوانين، والقطاعات الحيوية في سوريا، خاصة العقارات والطاقة.
توثق القوانين والمراسيم والقرارات الرسمية، وتُعد مرجعاً قانونياً مهماً في تتبع النصوص التشريعية.
لتحليل أرقام الهواتف الموجودة في الإعلانات والتعرف على أصحابها.

رقية العبادي

صحفية مستقلة متخصصة في التحقيقات مفتوحة المصدر، تغطي قضايا البيئة، تغير المناخ، والعدالة الاجتماعية. تمتلك أكثر من عشر سنوات من الخبرة في إعداد التقارير المعمقة والتحقيقات الاستقصائية، خاصة في مناطق النزاع في سوريا، حصلت على جوائز دولية وترشيحات عدّة، حاصلة على زمالة شبكة أكسفورد للصحافة المناخية (OCJN) التابعة لمعهد رويترز لدراسة الصحافة بجامعة أكسفورد لعام 2025.