
أمهاتٌ على أنقاض الحرب
ولادات محفوفة بالموت في قرى إدلب المهجورة
هدى الكليب – سوريا
في صباح بارد ملبد بالغيوم، وقفت هلا اليونس، العشرينية الحامل في شهرها السابع، وسط أطلال قريتها المهجورة كفرزيتا في ريف إدلب الجنوبي، كانت عيناها تتجولان بين جدران مهدمة وحجارة متراكمة تخنق المكان بصمت ثقيل، بينما يدها تمسد بطنها المنتفخ، كأنها تحاول بث الطمأنينة إلى جنين لم يعرف بعد وجه الحياة، لتهمس له بوعد صغير “ستنعم بالأمان”، غير أن الأمان نفسه بدا كأنه حلم في أرض ضاعت ملامح الحياة فيها.
بعد سنوات من النزوح إثر المعارك بين قوات نظام الأسد وفصائل المعارضة، عادت بعض العائلات إلى قراها في ريف إدلب الجنوبي إثر سقوط نظام الأسد في كانون الأول (ديسمبر) 2024، لا بحثاً عن الحياة، بل هرباً من ضنك العيش في المخيمات، لكن العودة إلى هذه القرى المحطمة كانت رحلة إلى جحيم آخر حيث الفراغ الموحش، بلا أدنى مقومات للحياة، ولا مشافٍ أو مراكز طبية، ولا حتى طرق ممهدة للوصول إلى أي من الخدمات الأساسية.
المزيد حول سقوط الأسد.. اضغط.ي هنا
انهار نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 خلال هجوم واسع شنته قوات المعارضة. قادت هيئة تحرير الشام هذا الهجوم، بدعم أساسي من الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، في إطار الحرب الأهلية السورية المستمرة التي بدأت مع الثورة السورية عام 2011. شكلت سيطرة المعارضة على العاصمة دمشق نهاية لحكم عائلة الأسد، التي حكمت سوريا بنظام شمولي وراثي منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة عام 1971 إثر انقلاب عسكري.
مع تقدم قوات المعارضة نحو دمشق، وردت تقارير تفيد بأن بشار الأسد فر من العاصمة على متن طائرة إلى روسيا، حيث انضم إلى عائلته التي كانت بالفعل في المنفى، وحصل على اللجوء هناك. وبعد مغادرة الأسد، أعلنت قوات المعارضة انتصارها عبر التلفزيون الرسمي. في الوقت نفسه، أكدت وزارة الخارجية الروسية استقالة الأسد ومغادرته سوريا.
لم تكن عودة هلا مع زوجها حسام وطفليها الصغيرين إلى القرية قراراً سهلاً، لكن المخيم في أطراف سرمدا أصبح خانقاً، تآكلت فيه أعصاب الجميع من الانتظار والتشرد والاعتماد على المساعدات، فقرر حسام العودة إلى بيت العائلة المدمر جزئياً، عله يتمكن من ترميم غرفة واحدة والبدء بالزراعة من جديد في أرض أبيه، بينما كانت هلا تحاول أن تصنع بيتاً من رماد، تجمع الحطب، تخبز على الصاج، وتعالج غصات أولادها بالحنان لا بالدواء.
في مساء ثقيل بالصمت والبرد، لاحظت هلا أن جنينها توقف عن الحركة. حاولت طمأنة نفسها بأن الجنين نائم، لكن الصمت الذي طال كان ينخر قلبها رويداً رويداً. في صباح اليوم التالي، أخبرت والدتها التي تقيم معهم في البيت نفسه، وبدأ سباق محموم مع الزمن لإنقاذ الجنين.
انتظرت العائلة لساعات طويلة وسيلة نقل تمر على الطريق الترابي المهجور، فقد غابت عن قريتهم منذ زمن طويل أي خدمات أو مواصلات نتيجة دمار الطرق والبنية التحتية وعزل القرية عن أقرب مركز مدني، وأخيراً وجدوا سيارة عابرة، وحين وصلوا إلى المستشفى البعيد، كان الطبيب بانتظارهم، لكنه حمل إليهم الخبر الذي كسر كل شيء: “الجنين ميت منذ أربع وعشرين ساعة”. سقطت هلا تحت وطأة الفاجعة، ومنذ تلك الليلة، لم تعد تعرف للنوم طعماً، “أخشى أن أعيش الكابوس مرة أخرى”، تهمس بمرارة.
“أخشى الموت أثناء الولادة”
قصة هلا ليست استثناء في هذه القرى بل تتشابه في تفاصيلها مع مئات القصص، ففي كفرسجنة، وعلى بعد بضعة كيلومترات، تعيش حسناء العكل (27 عاماً) تجربة مماثلة من الخوف اليومي. عادت مع زوجها وأطفالها الثلاثة إلى منزلهم المدمر جزئياً، بعد سنوات من النزوح والتشرد بين مخيمات أطراف سلقين ودركوش، حيث ضاقت الأرض بما رحبت، وضاقت صدورهم بما كتمت. لم تكن العودة قراراً نابعاً من أمل، بل من عجز، بعد أن فقد زوجها مصدر رزقه كسائق في مدينة إدلب، وتقطعت بهم السبل.
اليوم، يحاول زوج حسناء العمل في جمع الحطب وبيعه، وأحياناً يعاود إصلاح الأدوات الزراعية في القرى المجاورة مقابل مبالغ زهيدة لا تكفي ثمن خبز ليوم واحد. بينما وجدت نفسها الآن في مواجهة حمل رابع، بلا أي رعاية طبية، ولا حتى كلمة تطمئنها.
تقول بصوت مخنوق: “إذا جاءني المخاض ليلاً، لا أحد يعلم كيف سأصل إلى المستشفى، لا طرق، لا كهرباء، ولا حتى شبكة هاتفية نلجأ إليها”.
تدريب صحفي: الإبلاغ عن انتهاكات حقوق الإنسان
في إحدى ليالي شهر أيار (مايو) الفائت، استيقظت حسناء على آلام حادة ونزيف خفيف، استعان زوجها بدراجة نارية قديمة من جاره، ساروا بها ثلاث ساعات في الظلام وبين الكلاب الضالة وعلى الطرق غير المعبدة، وعندما وصلت إلى النقطة الطبية على أطراف مدينة أريحا، أخبرتها الطبيبة أن الجنين كان قاب قوسين أو أدنى من الموت بسبب تقلصات غير مراقبة ونقص في السوائل.
أوصت الطبيبة حسناء بالراحة التامة، والإكثار من شرب الماء، وتناول المغذيات الطبيعية إن وجدت، ووصفت لها أدوية لتثبيت الحمل وتعويض السوائل، إلى جانب المتابعة اليومية.
أوصت الطبيبة حسناء بالراحة التامة، والإكثار من شرب الماء، وتناول المغذيات الطبيعية إن وجدت، ووصفت لها أدوية لتثبيت الحمل وتعويض السوائل، إلى جانب المتابعة اليومية.
بينما تجلس حسناء على قطعة إسفنج مهترئة في منزل بلا نوافذ أو أبواب، تتأمل وجوه أطفالها الثلاثة، تهمس بألم: “أحياناً أبكي ليلاً بصمت. أخشى الموت أثناء الولادة، وأخشى أكثر أني لا أملك لطفلي القادم سريراً صغيراً أو حتى غطاءً نظيفاً يلف جسده الصغير”.

مضاعفات خطيرة
في ظل غياب شبه تام للمؤسسات الصحية، تتكئ النساء في تلك القرى المهجورة على جهود فردية لقابلات متطوعات مثل براءة خليل، التي تسابق الموت بإمكانيات بدائية. تقول براءة، وهي تتنقل بين النساء الحوامل في القرى المهدمة: “أعقم المقص بماء مغلي، وأُجري الولادات في غرف مظلمة على ضوء مصباح صغير، أحياناً أشعر أني أقاتل وحدي في ساحة معركة”.
لكن المعركة أوسع من قدرة براءة وأمثالها، فالمنطقة التي شهدت مؤخراً تغيراً كبيراً مع سقوط نظام الأسد وسيطرة حكومة جديدة، ما تزال غارقة في فراغ إداري وخدمي إضافة إلى دمار واسع، بينما لم تصل بعد الحكومة الجديدة، التي ترفع شعارات “التحرير وإعادة الإعمار” إلى القرى النائية التي خرجت تماماً من حسابات الدولة لعقد كامل. فلم تُفعل مراكز الصحة، ولا أعيد تأهيل الطرق، ولم تخصص ميزانيات فعلية للقطاع الطبي.
أما المنظمات الإنسانية، التي كانت تتدخل عادة لتغطية النقص، تراجعت أنشطتها بشكل حاد بسبب خفض التمويل، لتترك فراغاً مرعباً لا تملأه سوى القابلات المتطوعات بأدوات وموارد محدودة.
تتفاجأ براءة بأن بعض النساء يأتين بعد أشهر من الحمل، دون الخضوع لأي فحص طبي منذ البداية. تبذل كل ما بوسعها لمساعدتهن، لكن الحالات أحياناً تكون أخطر من إمكانياتها المتواضعة، خاصة النزف الحاد. تقول: “أحياناً لا أملك أي وسيلة لوقفه سوى الضغط على مكانه بيدي. هذا الإجراء لا يوقف النزف نهائياً، لكنه قد يبطئه مؤقتاً إلى حين الوصول لأي مساعدة. غالباً ما أكون وحيدة أصارع الوقت، وأنا أعرف أن كل دقيقة قد تكلف حياة”.
وتؤكد بأن الحمل غير المتابع طبياً يضاعف من احتمالات تعرض الحوامل لمضاعفات خطيرة مثل تسمم الحمل، الذي يسبب ارتفاعاً خطيراً في ضغط الدم، وقد يؤدي إلى فشل كلوي أو كبدي، بل وحتى إلى وفاة الأم والجنين، وكذلك يؤدي نقص الرعاية إلى صعوبة اكتشاف التشوهات الجنينية أو توقف نمو الجنين داخل الرحم، وهي مشكلات يمكن تجنب الكثير منها بالرعاية الطبية المبكرة.
وتتجاوز الكارثة حدود الجسد إلى عالم نفسي مثقل بالقلق والخوف. تقول الأخصائية النفسية خلود الحموي التي تعمل بشكل تطوعي في المخيمات، بأن “الحامل عموماً تمر بتقلبات نفسية، لكن في هذه البيئة يصبح الضغط النفسي مدمراً: الخوف من الموت في لحظة المخاض، ومن غياب الدعم والرعاية، كل هذا يدفع النساء إلى دائرة مفرغة من التوتر المستمر، ما يزيد خطر إصابتهن بالاكتئاب واضطرابات القلق خلال الحمل وما بعد الولادة”.
وتتجاوز الكارثة حدود الجسد إلى عالم نفسي مثقل بالقلق والخوف. تقول الأخصائية النفسية خلود الحموي التي تعمل بشكل تطوعي في المخيمات، بأن “الحامل عموماً تمر بتقلبات نفسية، لكن في هذه البيئة يصبح الضغط النفسي مدمراً: الخوف من الموت في لحظة المخاض، ومن غياب الدعم والرعاية، كل هذا يدفع النساء إلى دائرة مفرغة من التوتر المستمر، ما يزيد خطر إصابتهن بالاكتئاب واضطرابات القلق خلال الحمل وما بعد الولادة”.
اقتراح للقراءة: ثلاث نساء فراتيات يحكين قصة الحرب في سوريا.. على نهر الفرات هناك حرب أيضاً.
وسط هذا الفراغ الصحي الكبير الذي تعيشه المناطق المهجورة جنوب إدلب، تحاول فرق الدفاع المدني السوري، المعروفة بـ “الخوذ البيضاء”، تقديم يد العون والتدخل السريع لإنقاذ الأرواح حين تنطلق النداءات الطارئة من القرى المنسية، رغم محدودية الإمكانيات وصعوبة الظروف.
يقول سامي الحسن، أحد متطوعي الدفاع المدني، المنظمة الوحيدة العاملة في هذا المجال: “نتلقى عشرات النداءات كل شهر، لكن وعورة الطرق وقلة سيارات الإسعاف وقلة الموارد تجعل استجابتنا متأخرة. أحياناً نفقد الأم أو الجنين ونحن في الطريق”.
في زاوية بيتها المتهالك، ما زالت هلا تمسح الغبار وتطهو العدس، وتحاول أن تبني طمأنينتها من جديد. وعندما سألتها والدتها إن كانت تفكر في الحمل مجدداً، أجابت بصوت خافت: “ربما، لكن هذه المرة، أريد أن أصل لعناية طبية قريبة، دون قلق. لا أطلب معجزة، فقط فرصة للحياة”.
يقول سامي الحسن، أحد متطوعي الدفاع المدني، المنظمة الوحيدة العاملة في هذا المجال: “نتلقى عشرات النداءات كل شهر، لكن وعورة الطرق وقلة سيارات الإسعاف وقلة الموارد تجعل استجابتنا متأخرة. أحياناً نفقد الأم أو الجنين ونحن في الطريق”.
في زاوية بيتها المتهالك، ما زالت هلا تمسح الغبار وتطهو العدس، وتحاول أن تبني طمأنينتها من جديد. وعندما سألتها والدتها إن كانت تفكر في الحمل مجدداً، أجابت بصوت خافت: “ربما، لكن هذه المرة، أريد أن أصل لعناية طبية قريبة، دون قلق. لا أطلب معجزة، فقط فرصة للحياة”.
تم إنتاجها ضمن ورشة عمل بعنوان “دورها” Her Turn التي نظمتها مؤسسة تاز بانتر الألمانية بالتعاون مع شبكة الصحفيات السوريات.