الطاقة الشمسية والري في اليمن: فخ الاستدامة وتداعيات استنزاف المياه

تحقيق ل: سهير عبد الجبار

تحرير: حنين السيد

تصميم: محمد الحاج أحمد

في ظل أزمات متلاحقة وانقطاع شبه دائم للكهرباء في اليمن، بات البحث عن حلول بديلة ضرورة ملحّة لمواكبة التحديات اليومية، حيث يعاني السكان من انقطاع الكهرباء وشح  الوقود في مناطق غير مستقرة، برزت الطاقة الشمسية كطوق نجاة للكثيرين، ليس فقط لإنارة المنازل، بل أيضاً لدعم قطاعات حيوية مثل الزراعة، التي تشكّل مصدر رزق رئيسي لنحو 70% من السكان، ساهمت أنظمة الري بالطاقة الشمسية في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وخفض التكاليف التشغيلية للمزارعين، لكنها في المقابل فتحت الباب أمام استنزاف غير مسبوق للمياه الجوفية، في ظل غياب القوانين المنظمة لاستخدام هذه التقنية.

يركز هذا التحقيق على انتشار أنظمة الري بالطاقة الشمسية في حوض صنعاء، محللًا الفوائد والتحديات المترتبة عليها. ورغم أن هذه الأنظمة وفرت حلاً عمليًا لكثير من المزارعين، إلا أن الاستخدام غير المنظم أدى إلى ضخ كميات هائلة من المياه دون رقابة، ما يهدد الموارد المائية الشحيحة أصلًا في اليمن، وفي ظل تضارب السياسات بين الجهات المختصة وضعف الرقابة، يتفاقم استنزاف المياه الجوفية، مما يضع مستقبل الأمن المائي والزراعي في خطر حقيقي، ويثير تساؤلات حول استدامة هذه الحلول على المدى الطويل.

يواجه اليمن أزمة مياه خانقة تتفاقم عاماً بعد عام مع تزايد عدد السكان وشح الموارد، انخفض معدل توافر المياه للفرد انخفاضاً مطرداً خلال العقود الماضية، من 221 مترًا مكعبًا عام 1992 إلى 80 مترًا مكعبًا عام 2014 و 75 مترًا مكعبًا عام 2017 المعدل الأخير لا يمثل سوى أكثر بقليل من واحد في المئة من المتوسط ​​العالمي للفرد (5,925 متر مكعب) و14% من متوسط ​​نصيب الفرد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (554 متراً مكعباً).
مع استمرار هذا التدهور يشير المنحنى المائي في اليمن على مدى العقود الثلاثة الماضية إلى أن نصيب الفرد من المياه المتجددة قد ينخفض ​​إلى 55 مترًا مكعبًا بحلول عام 2030، لكن هذه الكمية لا تتوزع بالتساوي، حيث تنعم بعض المناطق بوفرة نسبية في المياه، بينما تكافح مناطق أخرى لمجرد الحصول على الحد الأدنى من احتياجاتها. 

يعتمد 70% من سكان اليمن، البالغ عددهم 29 مليون نسمة، على الزراعة كمصدر رئيسي للرزق، ما يزيد من الضغوط على الموارد المائية المحدودة. الزراعة وحدها تستهلك 90% من إجمالي الموارد المائية، في ظل توسع الرقعة الزراعية إلى 400 ألف هكتار، يعتمد معظمها على المياه الجوفية، الأمطار الموسمية غير كافية لتعويض الفجوة المائية، مما يزيد من معدلات الاستنزاف، خصوصًا مع تفاقم التغيرات المناخية وانخفاض معدلات هطول الأمطار.

ازداد الطلب على المياه مع تزايد التمدّد العمراني، مما دفع العديد من المزارعين إلى حفر آبار ارتوازية بشكل غير منظم وعشوائي. كشفت صور الأقمار الصناعية التي استخدمتها معدّة التحقيق عن وجود أكثر من سبع آبار في مساحة لا تتجاوز 100 متر مربع في منطقة حوض صنعاء، (يشهد حوض صنعاء استنزافًا متسارعًا للمخزون الجوفي، خاصة في المناطق التي تعاني من الجفاف) وفي ظل غياب خطط فعالة لإدارة الموارد المائية، والاعتماد المتزايد على أنظمة الري بالطاقة الشمسية، تضاعفت الضغوط على المصادر الطبيعية المحدودة.

أظهرت المعاينة الميدانية أن الأهالي يتعاملون مع الآبار كملكيات خاصة، تمتلك كل أسرة بئرًا خاصًا بها وتعتمد نظام السقاية بالتناوب، هذا التنافس الشديد بين الأهالي على المياه يؤدي إلى استنزاف سريع للطبقات الجوفية، خاصة مع تشغيل المضخات بالطاقة الشمسية طوال النهار بمعدل يتجاوز قدرتها الطبيعية على التجدد عبر مياه الأمطار. وقد ساهمت الطاقة الشمسية، باعتبارها حلاً اقتصاديًا وفعّالًا، في تشجيع المزارعين على التوسع في حفر آبار أعمق وتركيب مضخات ذات قدرة أعلى، مما رفع عدد المضخات المستخدمة في اليمن لأغراض الري إلى حوالي 100 ألف مضخة. لكن هذا التوسع العشوائي أسفر عن انخفاض متسارع لمنسوب المياه الجوفية، وزيادة مخاطر الانهيارات الأرضية وتلوث المياه بسبب تسرب الملوثات.

يفاقم هذا الوضع غياب العدادات لقياس كميات المياه المستهلكة، فضلاً عن عدم وجود أحواض تجميع تساعد على ترشيد استخدامها، مما أدى إلى استنزاف غير مسبوق للمخزون الجوفي، خاصة في المناطق التي تعاني من شح الأمطار وضعف إعادة تغذية الطبقات المائية، فلم تعد المشكلة تقتصر على الأثر البيئي فحسب، بل امتدت إلى تهديد الأمن المائي للأجيال القادمة.

صورة جوية لقرية بني حشيش – صنعاء
التُقطت هذه الصورة عبر الأقمار الصناعية في عام 2018.
صورة جوية لقرية بني حشيش – صنعاء
التُقطت هذه الصورة عبر الأقمار الصناعية في عام2022، وتُظهر التوسع السريع في استخدام منظومات الطاقة الشمسية لري الأراضي الزراعية. كما توضح الزيادة الكبيرة في عدد الآبار خلال أربع سنوات.

وفاء حميد، (30عاماً) من قرية بني حشيش، تعمل في الزراعة وتعتمد على منظومات الطاقة الشمسية. تؤكد أن الكثير من المزارعين في منطقتها تحولوا إلى استخدام الآبار الارتوازية بعد جفاف آبارهم اليدوية أو تراجع منسوب المياه فيها بشكل حاد. لكن هذا التحول زاد من الضغوط على المياه الجوفية، التي تنخفض مستوياتها عامًا بعد عام، في ظل تفاقم التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة.

ورغم أن القانون اليمني ينص بوضوح على أن المياه الجوفية ملك للدولة، ويعتبرها ثروة وطنية لا يجوز التصرف فيها خارج إطار القوانين النافذة، إلا أن التطبيق الفعلي لهذه القوانين يواجه تحديات كبيرة، في ظل ضعف الرقابة وغياب آليات التنفيذ الفعالة.

تنص المادة (4) من قانون المياه على أن جميع الموارد المائية الطبيعية، بما فيها الينابيع، ومجاري المياه الجوفية، الأنهار، السيول، والأمطار، وبحيرات المياه العذبة وغير العذبة، أو في ما يكون منها تحت سطح الأرض أو في طبقاتها  سواء كان في شكل تجمعات أو مجاري، بالإضافة لمصادر المياه الصناعية التي تتكون نتيجة مشاريع أو نشاطات يقوم بها الأفراد أو الجهات الرسمية، تخضع لسيادة الدولة، لا يجوز تملكها أو التصرف فيها خارج إطار القوانين المعمول بها. مع ذلك، يواصل العديد من المزارعين حفر الآبار بشكل عشوائي دون تصاريح.

تفاقم المشكلة غياب الرقابة من قبل الهيئات المختصة على كميات المياه المستخرجة، مع استمرار هذه الممارسات، يصبح الوضع أكثر تهديدًا للأمن المائي والزراعي، مما يستدعي تدخلاً عاجلاً، ولا تزال أساليب الري التقليدية مسيطرة في اليمن، تعتمد على استخدام قنوات مفتوحة(الري بالغمر)، تؤدي إلى فقدان كميات كبيرة من المياه بسبب التبخر والتسرب، مما يفاقم استنزاف الموارد المائية، حيث يتم ضخ كميات كبيرة من المياه باستخدام الطاقة الشمسية دون أي تنظيم فعال. في ظل هذا الواقع، يصبح التدخل العاجل ضرورة ملحّة عبر تشديد القوانين المنظمة لاستخراج المياه، بحسب المهندس سمير جبران مسؤول في قسم التخطيط الزراعي ضمن وزارة الزراعة.

المهندس عبدالعزيز الذبحاني، المسؤول عن الدراسات الخاصة بمشاريع منظومات الطاقة والري، يوضح: “في السابق، كنا ندعم المزارعين بإنشاء منظومات الري عبر مشاريع تمولها الدولة والمنظمات، مما ساهم في تنظيم استخدام المياه. أما اليوم، فقد أصبحت الآبار وما عليها ملكيات خاصة، حيث يعتمد المزارعون على أنفسهم في تركيب شبكات الري إلى جانب منظومات الطاقة الشمسية، مما يؤدي إلى إسراف كبير في استهلاك المياه. للأسف، لا توجد آليات فعالة لمراقبة هذا الاستهلاك، خاصة في ظل الفجوة الكبيرة بين قانون المياه وما يجري على أرض الواقع.”

ويضيف، “ينبغي تعزيز برامج الإرشاد الزراعي، وتشجيع المزارعين على استخدام تقنيات حديثة مثل الري بالتنقيط، الذي يقلل من الهدر ويحسّن كفاءة استهلاك المياه. كما يمكن للحكومة ومنظمات المجتمع المدني لعب دور محوري في تقديم برامج تدريبية حول الاستخدام المستدام للطاقة الشمسية في الزراعة، مع توفير حوافز للمزارعين الملتزمين بالإدارة المسؤولة للموارد المائية”.

ولضمان فاعلية هذه الحلول، “يجب تبني سياسات رقابية حديثة تعتمد على تقنيات متقدمة لمراقبة مستويات المياه الجوفية، وتحديد الكميات التي يمكن سحبها دون الإضرار بالنظام البيئي، مما يساهم في الحد من الاستنزاف وضمان استدامة الموارد المائية للأجيال القادمة”.

يُشكِّل التقسيم الوزاري والإزدواجية في القرارات بين مؤسسات المياه في اليمن عائقًا كبيرًا أمام إيجاد حلول فعّالة لمشكلة استنزاف الموارد المائية. تتداخل مهام وزارة المياه والبيئة، المسؤولة عن منح تصاريح حفر الآبار، مع مهام هيئات أخرى مثل هيئة الجيولوجيا والمجلس المحلي، مما يؤدي إلى تضارب في السياسات. فعلى سبيل المثال، تعمل هيئة الموارد المائية على تقنين حفر الآبار الارتوازية ووضع حدود واضحة لتخفيف الضغط على المياه الجوفية، في حين يُظهِر بعض مسؤولي هيئة الجيولوجيا تساهلًا مع المزارعين في منح تصاريح الحفر. 

تلعب وزارة الزراعة دورًا أساسيًا كوسيط وداعم للمزارعين، حيث توفر لهم المعدات الزراعية والوسائل التي تعزز الإنتاج، وتقدم الدعم الفني والمادي لتحسين أدائهم. ومع ذلك، تُغفل الوزارة دورها الرقابي فيما يتعلق بإدارة الموارد المائية وأنواع المحاصيل التي يزرعها المزارعون، والتي تؤثر بشكل مباشر على استنزاف المياه.

أما فيما يتعلق بالري، فإن وزارة التخطيط تتحمل المسؤولية عن تنظيمه ووضع السياسات المرتبطة به، ما يخلق فجوة بين الدعم الزراعي وإدارة المياه. من جهته يتدخل المجلس المحلي في فض النزاعات المتعلقة بالمياه، لكنه في كثير من الأحيان يسمح بحفر آبار جديدة كحل لتخفيف التوترات بين المزارعين، بغض النظر عن الأثر البيئي. 

هذا التضارب في الصلاحيات والسياسات يُعزز الفوضى في إدارة الموارد المائية ويعرقل تطبيق خطط مستدامة. ولحل هذه الإشكالية، لا بدَّ من توحيد الجهود بين الجهات المعنية تحت مظلة إدارة واحدة تُنسق القرارات وتضمن الالتزام بسياسات موحدة تحمي المياه الجوفية وتدعم المزارعين بطرق مستدامة، الحفاظ على المياه الجوفية ليس خيارًا، بل ضرورة ملحّة لمستقبل الأمن الغذائي والمائي في اليمن، قبل أن تصبح أزمة المياه واقعاً لا يمكن تداركه.

تم إنتاج هذه المادة بالتعاون مع منصة ريف اليمن الصحفية ضمن مشروع غرفة أخبار المُناخ والحقوق البيئية “عُشة”.

سهير عبد الجبار

صحفية يمنية مهتمة بصحافة الايكولوجيا