سبع محاولات غير ناجحة لكتابة قصة مصورة في غزة

قصة لـ: هند الخضري وقصي عمامة

مراجعة وتحرير: نور فرج

في الخامس من ديسمبر، كتبت هند على موقع X أنها تريد أن تختفي. انا أراقب منشوراتها قبل أن أنام… ألقي نظرة أيضا للتأكد من أنها لم ترد على رسالتي التي أرسلتها يوم أمس… لم ترد.

كانت قد كتبت قبل ذلك بساعات: “لقد حاولت، لكنني فشلت”.

قبل ثلاثة أيام، قالت لي هند أن الطبيب أخبرها بتضرر فكها بسبب ضغطها على أسنانها نتيجة للضغط الذي تعيش فيه، فيما لم تجد ماءً صالحًا للشرب منذ أيام، ولا تستطيع شرب الماء المتوفر لحساسية معدتها.

يتعين على هند أن ترسل إليّ قصة مصورة تروي أحداث غزة من زاوية الصحفية الشابة يتعين عليّ أنا أن أحرر القصة قبل الثالث عشر من ديسمبر… لا بأس لقد قالت إنها سوف ترسل نسخة أولية بحلول العاشر من ديسمبر.. عليّ أن أضع الهاتف في مكان بعيد عن رأسي.

لقد وصلتني رسالة واتساب جديدة.. أكره الرسائل.. ولا طاقة لدي للرد عليها.. جزء مني أصبح يخاف من الرسائل، أخاف من أن يخبرني أحدهم بشيء لا أريد معرفته. سأفتحها غدا.. إذا لم أمت الليلة!

إنه المرشد المسؤول عن قصتي المصورة، يسألني: كيف حالك؟

حسنا يا سيدي المرشد معدتي تؤلمني، فكي يؤلمني، أواجه مشكلات مع النوم.. وأواجه مشكلات أيضا مع الاستيقاظ. الكاميرا ثقيلة على يدي، الشتاء بارد، أنا وحدي في هذا الجحيم عائلتي ليست في غزة، لم أقم بأي تحديثات على القصة.. أشعر بالتقصير …كان عليّ تسليمها منذ الأسبوع الماضي.. ولكن لا طاقة لدي… ولكنني صحفية محترفة، سوف أكتب له: 

الحمد لله، شكرا لك.

 هند تكتب الأخبار كل يوم؛ إنها أخبارها الشخصية التي تقرأ فيها كيف يعيش الناس في الحرب وكيف يموتون. حرب مستمرة منذ أكثر من عام، يرى فيها الكثيرون حول العالم معالم صريحة للإبادة الجماعية، لكن لا أحد يفعل شيئًا لإيقافها.

يتابعها أكثر من ربع مليون مستخدم من حول العالم. يشتمها البعض منهم، ويتعاطف معها آخرون، لا ترد هند على أي تعليق، مع ذلك تستوقفها التعليقات العدائية فتتساءل:

“هل يتعرض آخرون لذات الأمر؟ كيف يمكن أن يُشتم صحفي يعيش بين الغارات والجثث والمجاعة؟” 

الوقت الذي لدي مع هند غير كاف للرد على السؤال، الحديث عن العمى الذي يصيب الحس السليم للأفراد والمجتمعات في أوقات الحرب والاستقطاب السياسي المكثف حديث طويل ومعقد. يبدأ الخطاب الشعبوي بما مفاده: “إن لم تكن معي فأنت ضدي” وينتهي “إن لم تكن معي فانت لست إنسان” ما أن ننزع عن الإنسان آدميته يا هند حتى يصبح من الجائز لنا أن نفعل به ما نشاء…

أتعرف أكثر ما يزعجني يا قصي؟

أكثر ما يزعجني هو أن العالم لا يرى آدميتنا…حتى المواطن العربي لا يراها، هم يعتقدون أننا نستطيع تقبل الخسارة.. وكأننا عندما نفقد أحبتنا نتألم أقل.. وعندما يتم حصارنا نجوع أقل …يقولون إننا “أهل الصمود” يتم تقديمنا على أننا أبطال.. وكأنه لا بأس لدينا في أن نفقد كل شيء …نحن لسنا “صامدين”.. ليس حقا.. وحقيقة أننا تعاملنا مع تاريخ طويل من الاضطهاد والألم لا تعني أننا اعتدنا عليه… ما نشهده لا يمكن الاعتياد عليه.

 الآخرون – المجتمعات التي لا تعرفنا إلا من خلال العدسة الاسرائيلية- يروننا أقل آدمية… ويحبون تصويرنا كمجموعة بشرية متخلفة لكي لا يشعروا بالذنب، وأبناء جلدتنا يروننا كشعب لا يقهر… وكلا الطرفين ينكر علينا بوعي أو دون وعي إنسانيتنا العادية… و حياتنا العادية.. وأحلامنا التي تشبه أحلام كل الناس على الأرض.

ما هي رسالتي الإعلامية؟ تخيل أن تكون رسالتك الاعلامية في القرن الواحد والعشرين: أيها الناس في كل مكان …نحن أيضا “ناس”!.

أنا الآن أراجع كل ما تعلمته.. من أخلاقيات العمل الصحفي إلى أدلة التعامل مع ضحايا الصدمات النفسية… تبدو لي كلها منتهية الصلاحية… لا شيء يسعفني للتعامل مع هند… لا أجرؤ على أن أسألها عن مسودة القصة… بدلاً من ذلك كتبت لها: كيف حالك؟

لم ترد.

من الواضح أننا لن نتمكن من تسليم القصة المصورة في الوقت المحدد. سوف نتحدث في العاشر من ديسمبر ونحل الأمر.

إنه العاشر من ديسمبر بالفعل.. هند لم تشارك النسخة الأولية من قصتها… في منشور لها على X تقول:

“لقد رأيت الكثير من الدم اليوم”

أتعرفين يا هند؟ لماذا لا نترك القصة المصورة… ونكتب قصة عنك أنت؟  لنتحدث عن هذه الفكرة الجديدة غداً.. ما رأيك؟

سوف نكتب قصة عني أنا، غداً…سوف يسألني قصي أسئلة عني وأنا سوف أجيبه.. ثم سأقوم ببناء القصة، ليس لدي إجابات مثالية أقدمها. آمل حقا ان لا يسألني عن “صمودنا” كي لا تتجمع الشتائم في حلقي فقد لا أتمكن من ابتلاعها!

 قال إنه سيسألني عن رحلتي الصحفية وعن السبب وراء استمراري في التغطية… حسنا هذا ليس سؤالاً جديداً.. هذا سؤال أطرحه أنا على نفسي كل يوم.

أنا الآن أعمل في مستشفى شهداء الأقصى… أصبحت أقوم بمهام التغطية الميدانية أقل من السابق لأنني مرهقة.

في بداية الحرب إن سألتني لماذا أنت مستمرة…كنت سأرد عليك بقائمة من الأسباب… الآن أنت تسألني ولا أجد الكثير من الأسباب والعبارات الشعرية لأقولها لك.. لدي سبب واحد فقط متبقي هو: أصدقائي الصحفيين الذين قتلوا… أنا أعرف جيداً أننا لو تبادلنا الأماكن.. وكانوا هم الأحياء استمروا في التغطية. أشعر بالخجل من فكرة التوقف مع أنني أحتاج بشدة إلى التوقف.

اليوم هو الحادي عشر من ديسمبر، لم تأت هند للمقابلة الإلكترونية… لقد قتلت صديقتها إيمان اليوم.

في الحادي عشر من ديسمبر، هند ترثي إيمان:

 “إسرائيل قتلت صحفية وصديقة أخرى”

 كانتا قد التقيتا لثوانٍ قليلة أثناء عبورهما الطريق، فرحتا بذلك اللقاء السريع والخاطف الذي تم أثناء الهرب من قصف إلى قصف آخر. تكتب هند حامدة الله على أنها رأت إيمان قبل موتها بقليل.
في ذات اليوم، تكتب هند مرتين عن موت إيمان، وتشتم…

أكثر ما يؤلمني هو اضطراري لتغطية خبر مقتل شخص أعرفه، حدث هذا كثيرا خلال سنة، لقد خسرت الكثير من الأصدقاء، والزملاء ، والأقارب،  رحلة الحرب هذه غريبة.. من مكان الى آخر.. من نزوح إلى نزوح، في الأسابيع الأولى لم أتصور أن الحرب سوف تستمر … كنت أقول لنفسي هذا الأسبوع سوف تتوقف… هذا الأسبوع سوف يتوصلون إلى حل…لكنها استمرت.. والآن لا أستطيع أن أتخيل كيف ستنتهي.

نحن الصحفيون نعرف أنه قد يتم استهدافنا في أي لحظة… هل تعلم أن الناس يخافون منا يا قصي؟ يخافون من كلمة “Press” المطبوعة على ستراتنا… كما لو أن الكاميرات في أيدينا هي منصات إطلاق صواريخ… بعض الناس لا يريدوننا بينهم لانهم يخافون أن يتم استهداف المكان بسبب تواجدنا فيه.

أرسلت اسئلتي الى هند… وانتظرت أن ترسل لي جانبها من القصة… وفي الاثناء كنت أتتبع منشوراتها الاخبارية والشخصية على منصة x ، لقد شاهدت العشرات منها أملا في أن أفهم تجربتها الشخصية في تغطية الحرب، تزامن ذلك مع التقارير التي بدأت بالظهور حول معتقلات نظام الأسد في سوريا… إذن لقد مات مازن حمادة؟ طيب…

انا افهم جيدا ما يعنيه أن يشعر الصحفي بالإرهاق يا هند..

في الخامس عشر من ديسمبر، نشرت صورة سرير نقل في مدخل مستشفى مغطى بالدماء، لكنها لم تذكر لمن تعود الدماء، ومن كان مستلقيًا هنا، وما هو مصيره. ربما لأنها تعلم أننا لم نعد نهتم كثيرًا، وانخفض تأثرنا بمشاهد مماثلة.

في الحادي والعشرين من ديسمبر، وثقت أطفالًا يسابقون سيارة توزع المساعدات في شوارع غزة. مدنيون يحملون حصصهم ويسرعون بها إلى عائلاتهم. الأرض طينية لزجة، وبعضهم يكاد يقع. عجوز يساعده شاب على سحب حصة المساعدات الخاصة به…

 هنا صورة لمقبرة تحتاج أن تدقق كي تتأكد من أنها مقبرة. فهي معدة على عجل، أرضها غير مستوية، وشواهد القبور من الكرتون. على الأغلب، تم اعادة استخدام العلب الكرتونية الخاصة بالمساعدات لتكون شواهد القبور. تكتب هند:
“في كل مرة أفقد شخصًا أحبه… هناك قطعة من قلبي تذهب معه… إسرائيل قتلت خلال الأربعة عشر شهرًا الماضية الكثير ممن أحب… أجزاء كثيرة من قلبي ذهبت معهم”.

قبل شهر وأكثر، لم تكن هند أفضل حالًا. كتبت في الثاني والعشرين من نوفمبر، مرتين. الأولى قالت فيها: “ما أبشع الدنيا”، والثانية: “كل يوم بخسر، كل يوم”. مهما بحثت، لن تجد ما يخرج عن هذا السياق. لكن نشاطها على X كان أكبر آنذاك. كانت تكتب وتعيد نشر الكثير عن ومن غزة. تراجع ذلك مؤخرًا، إنهاكًا شديدًا أصاب الصحفية، لكنها لم تتوقف بعد.

فجأة، وجدت دعابة! كتبت هند: “وأنا بستنى الحرب تخلص”، مع ثلاث صور لبطل مسلسل Pablo Escobar، وهو يجلس أو يقف وحيدًا. الصور مميزة ويكثر استخدامها في المنشورات الكوميدية، لكنها من المرات النادرة التي تُستخدم فيها للسخرية من حرب لا تنتهي. وهي كذلك من المرات النادرة، إن لم تكن الوحيدة، التي بدت فيها هند مستعدة للمزاح. تزامن نشرها لذلك مع الأخبار عن قرب التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار في غزة. سرعان ما فشلت مساعي وقف إطلاق النار وعاد القصف مجددًا.

لقد تسلمت مسودة القصة أخيرا… ليست القصة المصورة التي حاولنا أنا وهند إنتاجها في البداية.. ولكن قصتها هي.. وجدتني-أنا أيضا- وقد أصبحت جزء من القصة… قصة صحفيين عاديين – ليسوا “صامدين” في الأزمنة الصعبة.

في نهاية مسودتها كتبت هند:

لقد توقف كل شيء… ما عدا الحرب…

أشعر أن عليّ توثيق ما يحدث. ولكن حتى هذا الشعور بالمسؤولية الصحفية يشح أحيانا ولا يعود كاف ، كما هو حال المواد الغذائية والأدوية…

أنا أشعر بمسؤولية أن استمر في التغطية.. ولكنني أحيانا أشعر أنني لا أستطيع الوقوف أمام الكاميرا… أحيانا لا أجد شيئا أقوله… وأحيانا أفقد قدرتي على فصل نفسي عن المشهد، وأجدني أبكي مع من يبكون.. حتى هؤلاء الذين لا أعرفهم.